د. حسن بن فهد الهويمل
لمحت كتاب [خيانة المثقفين. النصوص الأخيرة] للمفكر العربي الراحل [ادوارد سعيد 1935 - 2003] على طاولة ابنتي، التي [أدركتها حرفة الأدب] في شقائها وراء الكتب، لا في عوزها، ولا في مصائبِها -والحمدلله-.
إذ كانت تلهث وراء كل جديد في أي مكتبة داخل المملكة، أو خارجها، وعلى كافة المواقع. ودعك من نشل مكتبتي، وهي قارئة باللغتين على خلافي.
وحين لمحته لم أتمالك نفسي من التقاطه، كما التقط [آلُ فرعون] موسى {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}.
وكنت حريصا عليه، لمكانة المؤلف المتميزة في المشهد الفكري، والسياسي. ولأنني أتجرع مرارات بعض المثقفين العرب، وأكتوي بشطحاتهم، وتسطحاتهم، والتواء أفكارهم، وغثائية عطائهم.
كنت قد فرغت لِلتَّوِّ من قراءة كتاب الدكتور [عبدالحكيم بدران] الذي يحمل ذات العنوان.
ومن باب التداعيات تراءت لي من بعيد كتب لاتحمل العنوان، ولكنها تبحث في ذات الموضوع من مثل [الوعي المفقود] و[عودة الوعي]، ونقد [علي حرب] للمثقف، ومتابعات [أنور الجندي] للكتب المخالفة لرؤيته، ومحاكمته لـ[عمالقة العصر].
ومع تحفظي على كثير من التجاوزات، فإنني أبارك هذا الهم، الذي أود لو عَدل النقاد عن الحكم على المخالف، والاكتفاء بعرض الرؤية، وتمكين القارئ من ممارسة حقه في الحكم على ضوء الوثائق.
فالناقد يبرز الأخطاء، وفق رؤيته. والمتلقي يحكم بعد سماع الدعوى. هذا هو النقد الموضوعي الذي نفقده.
ليس هذا ما أريد، وإن كنا مَعَهُ حيارى، ومظلومين.
أخذتُ الكتاب على عجل، وانتدبذت من مكتبتي مكانًا قصيًا. وكنت أظن أن المؤلف، يمارس مرافعة ضد المثقفين، وإذ بالكتاب مجموعة مقالات في موضوعات شتى من بينها مقال تحت عنوان [خيانة المثقفين].
خيبة الأمل لا تقف عند هذا الحد، وإنما تمتد إلى ترجمة الكتاب. فالمقالات كُتبت باللغة الإنجليزية، وأقْدم المترجم [سعد الحسين] على ترجمتها.
ولست أدري هل جمعها المترجم، أو جمعها المؤلف، وهيأها للطبع قبل وفاته تحت هذا الاسم، أم لا. فإن كان قد فعل هذا، فهو شريك في خداع العناوين.
المؤكد أن [دار النشر] استغلت ذلك كله، وكلفت أحد المتعاونين معها على ترجمتها.
فالكتاب طُبِع بعد وفاة المؤلف بثماني سنوات. والمترجم لم يكتب مقدمة خاصة به، و[دار النشر] لم يكن لها استهلال. والمؤلف -إدوراد- لم تكن له مقدمة. وهذا يؤكد أنه بريء من الجناية.
لقد ذكرتني هذه الترجمة، بالمترجمين في مشروع [زدني علماً] الذين يمارس بعضهم الترجمة القاموسية، ومن ثم تبدو الركاكة، وسوء الغرض للأفكار.
شرط المترجم:-
- أن يتقن اللغة المترجم منها، والمترجم إليها، بحيث يكون قد مارس الكتابة في اللغتين.
- أن يكون موضوع الكتاب المترجم من ثقافة المترجِم، أو تَخَصُّصِه.
- المراوحة بين الترجمة النصية، والمفهومية.
ومترجم الكتاب لا يتوفر على شيء من تلك المطالب. وترجمته قاموسية مضطربة ركيكة. فهو يقرأ الكلمة باللغة المترجم منها، ويرجع إلى القاموس ليضع الكلمة البديل في اللغة المترجم إليها. هذا فضلا عن أن الأسلوب ركيك، متفكك، مربك. وصادم للذائقة، والذهن.
وبوادر ضعفه في اللغة المترجم إليها، وجود الأخطاء النحوية المُتَفَشيَّة في كل صفحة. هذا فضلاً عن انعدام [علامات الترقيم].
الجاني الأول، والمحاسب على كل الهفوات دار النشر التي اقترفت مثل هذه الأخطاء الفادحة.
فالجشع، وحب الكسب غير المشروع يدفعان دور النشر إلى الاستعانة بمترجمين مبتدئين، ليسوا على شيء من الثقافة.
المقالات التي جُمعت، وترجمت، واختير لها عنوان أخَّاذ مخادع، تحكي مرحلة متأخرة من رؤية المفكر السياسية. وهي رؤية حادة، وتمثل موقفًا حُراً، يشبه إلى حد كبير موقف [تشومسكي] اللغوي، والسياسي اليهودي، الأمريكي غير المتصهين.
ومؤاخذتي حماية لسمعة المؤلف، ومكانته، وتحذيرٌ من استغلال القارئ، ومخادعته.
فالفكر، والثقافة، ورموز الفكر، والثقافة، أحق بالاحترام من الكسب الرخيص.
يقع الكتاب في ثلاث، وثمانين، وثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، وهو أشبه بـ[الكشكول] ففيه مقدمة لا تحمل سمة المقدمات. ومجموعة مقالات كتبها [إدوارد] في فترات متقاربة. ومجموعة مقالات رثائية عنه. ولقاءات، ومقابلات معه، لم يكن له أي دور في جمعها بهذا الشكل.
مُشْتري الكتاب حين ينظر إلى مكانة المؤلف، وجاذبية العنوان، يَرْخُص عنده الثمن، ولكنه حين يتصفحه، يشعر بخيبة الأمل.
والقارئ النهم الذي لايُتْقِن إلا لغة واحدة مِثْلِي، تسوؤه الترجمة الركيكة، ويزعجه خداع العناوين، والتجميع الفوضوي، لمجرد تضخيم الكتاب، حتى لكأنه ناقة الشاعر التي يقول عنها:-
[أعْلَفْتَها تِبْناً، وَمَاءً بَارِداً… حَتَّى بَدَتْ هَمَّالةً عَيْنَاهَا]
تنم المقالات عن رؤية حرة، وإدراك متميز لتلقبات السياسة، كما أنها تعبر عن موقف مستقل غير تبعي، ولكن الترجمة السيئة أطفأت أَلَقها.
المشهد السياسي العربي بحاجة لمثله، فهو لا يداهن، ولا يماري، ورؤيته تستمد تألقها من عمق المعرفة، وشموليتها، وحرية الرأي، وإنسانية الموقف.
نختلف مع [إدوارد] كثيراً، ولكننا نحترمه أكثر. وأشرف المخالفين من يفرض عليك احترامه، ويضطرك إلى الاحتفاء بطرحه. إنه المخالف الذي لا تجد غضاضة من مساندته، ليقول رأيه.
لقد كنت أتمنى ألا يُسْتغل اسمهُ في سبيل الكسب المادي، مثلما استغل اسم [عباس محمود العقاد] من قِبَلِ ابن أخيه [عامر العقاد].
فالمفكرون الكبار مسؤولية المتابعين، والمستفيدين منهم. وصلة العلم، والثقافة أكبر من صلة النسب، والقرابة.
فليتق الله ورثة الفكر، وليحسنوا إلى عمالقة السياسة، والأدب. و[إدوارد سعيد] من أولئك الذين لا تليق الإساءة لهم، والعبث بتراثهم.
ونقدي، وتذمري ليس وقفاً على هذا الكتاب، ولا على مُقْتَرِفي العبث في عملية التجميع العشوائي، والترجمة السيئة، وخداع العناوين.
إنها محاربة لمثل هذه الظاهرة المستشرية، والجشع البغيض. فما أكثر الجنايات المتعمدة، والمخادعات المدبرة.
ومشاهد الفكر، والثقافة، والأدب حين يسودها الطمع، والاسترزاق، يكون ضررها أكبر من نفعها.
إن على قادة الفكر، ودور النشر احترام الأموات، والحفاظ على سمعتهم، ومكانتهم، وعدم استغلال شهرتهم، للارتزاق غير المشروع.
فمن لقي الأمَرَّيْن في بناء سمعته، واستنزاف طاقاته في خدمة أمته جدير بأن تصان كرامته، وترعى حرمته. ولا سيما إذا كان مَيْتًا لا يقدر على الدفاع عن نفسه، وحفظ حقوقه.