محمدالمهنا أبا الخيل
في الفترة بين عام 1633 وعام 1639 وبناءً على قرار الشوقون (إيمتسو توكوجاوا)، عزلت اليابان رسمياً عن باقي العالم، فلا يسمح للأجانب بدخولها ولا يسمح لليابانيين بالخروج منها، وانحصرت التجارة مع العالم بنفر قليل يسمح لهم بالتفاوض مع الأجانب والبيع والشراء على ظهور السفن الراسية فقط، هذا الأمر كان بسبب الهلع الذي أصاب الساسة اليابانيون من أن يتاثر الشعب الياباني بالدعوة للمسيحية، بعد أن تحول بعض اليابانيين في منطقة (كوماموتو) في جزيرة (كيوشو) للمسيحية بفعل النشاطات التبشرية البرتغالية، في تلك الفترة كان الشوقونات هم من يحكم اليابان فعلياً بتفويض من (الإمبرطور)، وكان الموت هو عقاب من يخالف تعاليم المنع خلال تلك الفترة التي تسمّى تاريخياً (سكوكو)، وفي عام 1853 أقدمت حملة أمريكية بقيادة (ماثيو بيري) تسمّى حملة (السفن السوداء)، على فرض الانفتاح على اليابان وتوقيع عدة اتفاقيات ثنائية، ولكنها لم تحقق الكثير نتيجة تحفظ الشوقونات على تلك الاتفاقات، وبعد عام 1868حين تولى عرش اليابان الإمبرطور (ميجي)، والذي قضى على سلطة الشوقونات وأعاد وحدة اليابان تحت سلطة الإمبرطور، وبدأ مسيرة التنمية والتطوير حتى أصبحت اليابان بعد وفاته 1912 واحدة من أقوى الأمم الاستعمارية في العالم حينها.
لو لم يغامر الإمبرطور (ميجي) بمواجهة الشوجونات ويهدم نظامهم الإقطاعي ويحرم استبداد وظلم فرسانهم (السموراي) للناس، لما عاصرنا هذا اليوم دولة عظيمة في اقتصادها ومساهمتها العلمية في تنمية الحضارة البشرية، ولربما أصبحت اليابان أقل شأناً أو حظاً من بعض دول شرق آسيا الفقيرة، بل إنّ اليابان أصبحت محفزاً ومنار هدى حضاري لعالم شرق آسيا، فتطورت تلك البلدان التي ساهمت اليابان في نقل المعرفة لها ولو كان ذلك بقصد استعماري.
في مشرقنا العربي ومنذ ظهور ما سمِّي بـ (الصحوة) والدعوة لمعاداة الغرب والانقطاع عن مواصلته حضارياً، تتصاعد وتحتل حديث المجالس وبعض المنابر، وكل ذلك بسبب الهلع من تأثر المسلمين في بلاد العرب بأخلاق وممارسات الغرب الدينية والاجتماعية والسلوكية، مع أنّ هذه البلاد وعلى مدى تاريخها الأزلي كانت حلقة صلة بين الشرق والغرب في تجارتهم ومعيشتهم وصناعتهم وثقافتهم، وكانت مرتعاً للتأثير والتأثر وملتقى حضارات القارات القديمة، وفي حظيظ فقرها وفاقتها وهوانها لم تفقد خصوصيتها ومجدها الذاتي، بل إنها عندما تحمّلت شرف نشر رسالة الإسلام نفضت غبار سنين الجاهلية وسادت العالم في غضون قرن من الزمان. وفي أوج سلطانها وسيادة حضارتها لم تفرض على العالم استعمارً يرهقهم ولا إذلالاً يؤرقهم، بل نشرت الهدي والمعرفة والأدب ومكارم الأخلاق.
الانفتاح على الغرب ليس جديداً على هذه الأمة لتنبهر بما هم عليه، ولكنه انفتاح تفرضه الحاجة للتفاعل والاكتساب والتعلُّم والانتفاع، انفتاح يتيح لهذه البلاد اللحاق بما فاتها من تنمية وتقدم حضاري، انفتاح يتيح نقل التقنية والمعارف لبناء حضارة جديدة تمثل قاعدة لانطلاق مجد جديد، يصل ما انقطع من مساهمة عظيمة في عمارة الأرض.
الانفتاح على الغرب سيكون له تأثيرات اجتماعية ومدنية لا يجوز لعاقل التغافل عنها، ولكن هذه التأثيرات ستحدث لا محالة فالعالم أضحى قرية صغيرة، وهذه التأثيرات ليست جديدة بسماتها، فقد تحلى المجتمع الإسلامي العربي بسمات انفتاحية تحررية في فترة سيادة حضارته في المشرق والمغرب في الهند والأندلس، وكانت تلك السمات حينها تمثل للمجتمع الغربي المسيحي خروجاً على سائدهم، وكان من يتحلى بها من أهلهم يتعرض للتنكيل والتعذيب وفي أدنى العقاب يطرد من ديارهم.
الفردانية والتي هي أحد أهم إفرازات التحضر المدني نتيجة للاستقلالية الاقتصادية للفرد، هي لازمة للتنمية المستدامة، حيث يصبح الفرد معتمداً على مؤسسات المجتمع الحكومية والاقتصادية، ويصبح أقل اعتماداً على ما تحققه الأسرة أو القبيلة من حماية ودعم عند الحاجة، ونتيجة لذلك تصبح خياراته الذاتية أكثر أهمية من الواجبات الجماعية، هذه الحالة ستظهر في مجتمعنا بصورة ملاحظة سنة بعد أخرى حتى تصبح النمط السائد وما سواها استثناء، لذا علينا أن لا نصطدم مع مسيرة الحياة، وأن نؤمن بأنّ ذلك جزء من القدر وأحد نواميس الحياة التي وضعها الله فيها.
لذا أجد أن التغريب هو تعبير بات يفقد دلالته، فليس هناك عملية قسرية مفروضة على أي مجتمع لسلوك مماثل للغرب، بل إنّ الغرب بات اليوم يحاول أن يكتسب من بعض سلوكيات الشرق سواء كانت إسلامية أو غيرها، فالمساجد والمدارس التي تنشر الإسلام باتت في كل مدينة غربية، وبات في معظم المدن الغربية معابد لمختلف الديانات وتكونت فيها جمعيات لممارسات شرقية مثل (اليوجا) و(الزن) و(التأمل الهندوسي)، وباتت مكتباتهم تغص بأطياف الثقافات والديانات الأخرى. لذا لن نقول إن هناك حملة تغريب لمجتمعنا ولكنها صيرورة جديدة لحياتنا نتيجة الامتزاج والتعايش مع باقي العالم.