سلمان بن محمد العُمري
لا يختلف اثنان أن حفظ التراث المحلي يعد تدويناً للتاريخ الاجتماعي للبلاد، والوثائق العائلية للأسر الكبيرة ممن لها تاريخ طويل في مناحي الحياة هي جزء من تاريخ الوطن.
وقلة قليلة من الأسر تعنى بالوثائق وتحافظ على هذا الإرث الكبير، واعتباره ضرورة ينبغي المحافظة عليها ليس للأسر ذاتها فقط بل للمجتمع ككل.
وحينما ينبري أحد أبناء الأسر المتخصصين في التاريخ لدراسة وتحليل تلك الوثائق، تكون الدراسة وفق منهج علمي يستخرج منه الكثير من الفوائد والفرائد، والأستاذ الدكتور عبد العزيز بن إبراهيم العُمري واحد ممن وظف خبراته العلمية والعملية في دراسة الوثائق العائلية لأسرته، على الرغم من أنه لم يكن متخصصاً في التاريخ الحديث، ولكن بحكم تخصصه العام في التاريخ والممارسة والمران والدراسة للوثائق والمخطوطات التي عني بها وبكل نجاح كتاب "وثائق عائلية من بريدة".. من مقتنيات الوالد إبراهيم بن سليمان العُمري - رحمه الله -، والذي يقول ما وجدته لدى الوالد عند وفاته يمثل إرثاً ضخماً من الأوراق والدفاتر، وصلته من والده سليمان بن محمد العُمري -رحمه الله- وهو أيضاً - جدي - وصلته من والده وأجدادهم وبعض أرحامهم وجيرانهم وأصدقائهم، وتحتوي على عدة: دفاتر، وأوراق، ووصايا، ومراسلات، يعود بعضها إلى قبل مئتين وخمس وثلاثين سنة. وتم تقسيم الكتاب إلى مجلدين الأول يعالج وثائق تسعين سنة من عام 1200هـ حتى 1290هـ، والجزء الثاني لوثائق من عام 1291هـ حتى 1345هـ.
خمسمائة وثيقة
ويؤكد د. العُمري أنّ الوثائق العائلية التي وجدتها، تُعَد مصدراً مهماً في تاريخ مدينة بريدة على وجه العموم، ليس لعائلتي خاصة بل لأسر مختلفة في بريدة ومحيطها، وردت العشرات منها ومن أعلامها في الوثائق، بل وللحياة الاقتصادية والعلمية والاجتماعية في هذه المدينة النجدية العريقة. وبلغ مجموع الوثائق ما يزيد على 500 وثيقة، قدمها بالمجان لمن يطلبها من طلاب وطالبات الدراسات العليا في التاريخ السعودي الحديث المعاصر وهي ليست من الأسرار العائلية، وقد استفاد منها العديد من الباحثين.
وقد بذل الباحث جهداً كبيراً في التغلب على الصعوبات التي واجهته كغيره من الباحثين ومنها صعوبة قراءة الوثيقة في بعض الأحيان، لسوء الخط ورداءة القلم أحياناً، وكذلك بعض المصطلحات باللغة الدارجة والمحلية في حينها، والتي قد لا يفهمها الجيل المعاصر وغير ذلك من الصعوبات العديدة والمتنوعة التي استطاع التغلب عليها -ولله الحمد-.
نتائج مهمة
وخرجت الدراسة البحثية "وثائق عائلية من بريدة " بنتائج مهمة من خلال عرض الوثائق في هذا الكتاب أهمية التاريخ الاجتماعي والاقتصادي عمومًا، وما يتعلق بمدينة بُرَيْدَة ومحيطها خصوصًا، كما يتضح ثراء العائلات المختلفة بمثل هذه المقتنيات من الوثائق، التي تكشف عن تاريخها وتاريخ المكوّن الاجتماعي للمدن، وضرورة أن تحظى بالاهتمام اللازم من قِبل المؤرخين، وأن لا ينصب التركيز على التاريخ السياسي للمدن، كما أنّ هذه الوثائق تكشف عن قضاة بُرَيْدَة وكتابها وموثقيها، والكثير من أعلامها وأُسرها، وتواريخ وجودهم في المدينة، إذ إنّ بُرَيْدَة كغيرها من المدن منطقة شهدت تغيرًا سكانيًا، وكانت بُرَيْدَة خصوصًا منطقة جذب للكثير من العائلات التي قدمت إليها من مناطق أخرى، واشتهرت فيها بعد ذلك، وتظهر بعض الشخصيات من خلال الوثائق وتختفي أخرى في فترات زمنية مختلفة نتيجة الوفاة أو ظروف أخرى، مع التأكيد على أنّ هذه الوثائق العائلية بأنواعها المختلفة، تُعَد مصدرًا مهماً للتوثيق التاريخي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لهذه المدينة والمناطق التي دوّنت فيها، وعالجت أحوال وحقوق أُسر محددة منها، وعلاقات بعضها ببعض، ويتأكد ذلك من خلال دراسة الوثائق الواردة في الكتاب وما شابهها.
وأوضحت الوثائق الواردة اعتماد مجتمع بُرَيْدَة ومحيطها وحرصهم في الغالب على التوثيق من القضاة المعاصرين وبخطهم وختمهم أو إملائهم, كما أنهم يتابعون تسجيل التسديد للديون أحيانًا وتصفيتها في مراحل زمنية مختلفة، كما أظهرت وجود نوع من العلاقة الخاصة بين بعض الموثقين وتجار معينين كانوا يعتمدون عليهم في غالب وثائقهم ومكاتباتهم، وأن عددًا من هذه الوثائق كانت المرأة طرفًا فيها، وبالتالي يتضح أن المرأة في تلك المرحلة كانت تبيع وتشتري وترث وتورث وتوصي بكل حرية وتوثق ذلك لدى القضاة, حتى لو كانت الصفقة مع زوجها أو ابنها وهم أقرب الناس إليها، كما يتضح من خلال الوثائق أن المجتمع في تلك المدة كان يعطي المرأة حقها من الميراث بإنصاف حتى لو اضطر الأمر إلى قسم مزرعة بعينها، وكانت أثمن المقتنيات في المنطقة.
وكشفت الوثائق عن علاقات أُسرية متعددة في المنطقة بالرحم والقرابة والتوارث ونوع من القرابة بينها، وكشفت عن تاريخ عدد من الأُسر وحالاتها وأعلامها وشيء من حياتهم بل ووفياتهم أحيانًا, وخطوطهم وتعاملاتهم وأملاكهم، ويتضح من الوثائق أن القضاة في القصيم خلال القرن الثالث عشر الهجري ومطلع الرابع عشر، خصوصًا كانوا يقومون بواجباتهم في التوثيق والمتابعة والأحكام القضائية عند الحاجة، رغم اضطراب الأحوال المختلفة في نجد منذ سقطت الدرعية في حملة إبراهيم باشا سنة 1233هـ, وما تلا ذلك من اضطراب وتغيير في كثير من الأمراء والأحوال وتزاحُم كثير من الأمراء على السلطة وقتل بعضهم بعضًا، ويتضح من الوثائق أن كثيرًا من الناس في محيط بُرَيْدَة وخصوصًا المزارعين منهم يعتمدون على الدَّين في سداد احتياجاتهم، حيث يأخذون حاجتهم من التجار دينًا مؤجلاً, ويسددون في موسم التمر أو القمح من إنتاجهم, وهو في الغالب قليل ومحدود، يعتمد على ري المزارع عن طريق الحيوانات بالسواني وغيرها, حيث لا أنهار ولا عيون، وبالتالي كانوا يتعرضون لصعوبات شديدة في التسديد، قد تؤدي لبيع الملك أو المزرعة أحياناً لتسديد تلك المستحقات، كما اتضح أن الوثائق تسجل أمورًا مفصلة ودقيقة وبسيطة في بعض الأحيان مما يدل على ضعف الاقتصاد وبساطته واهتمام الناس بالصغائر البسيطة، وأن بعض هذه المداينات هي أمانات للاستثمار والمضاربة من قبل من هي لديه، وتوثق ذلك ضمن الإقرارات المالية المعتادة، وأن معظم المداينات يتم فيها ذكر التمر كسلعة للمقايضة بدلاً من العملة التي كانت نادرة في تلك المدة. كما يتم ذكر الحب (القمح أو الشعير) أحيانًا، وأحيانًا قليلة جدًا يرد ذكر الذرة، ويحرص الموثقون على الإشارة لوجود رهون مختلفة مقابل الدَّين، يأتي في مقدمتها رهن الملك، سواء أكان مزرعة أم بيتاً أم دواب معينة, وتحديد المرهون بدقة وبيان فترات السداد المرتبطة به، ومن خلال الوثائق يتضح وجود توكيلات لأناس بعينهم من قبل المدين أو القاضي لاستغلال مزرعة محددة أو ملكًا معينًا لتسديد دين مرتبط بورثة أو غيرهم.
بريدة والكويت
وقد اتضحت من خلال الوثائق بعض أدوات الصناعة والزراعة، كالمطرقة والقدوم والمنشار وغيرها، وأنواع الأواني والأثاث المختلفة المستخدمة في المنازل والترحال، وكذلك الملابس وغير ذلك، وتسميتها من خلال الوثائق ووصفها وتقدير ثمنها وقسمتها بين الورثة كجزء من الميراث، مما يدل على أهميتها وقيمتها في تلك المدة. ويمكن بالتالي تصور هذه الأنواع في مجتمع بُرَيْدَة ومحيطها في تلك المدة، كما أن العملات المستعلمة في بُرَيْدَة والكويت وما بينهما ما قبل مئتي سنة إلى مئة سنة كانت مختلفة ومتغيرة، انقطع بعضها في مراحل واستمر بعضها، فمرة هي نوع من الزِّر (وهي عملة ذهبية تركية أو فارسية), يقال لها الزِّر الأحمر أحيانًا تمييزًا (للتأكيد على أنها ذهبية), ومرة يستخدم الريال الفرنسي (وهو عملة فضية أوروبية تعرف باسم الأم تيريزا Maria Theresa thaler, وهو أكثر تلك العملات استخدامًا, ولا تزال موجودة), ومرة يذكر الغازي أو المجيدي (وهو عملة تركية عثمانية) ومرة الربية، وخصوصًا في التعاملات مع الكويت، كما أن بعض المنتجات الزراعية خصوصًا تستعمل أحيانًا كمقايضة لدفع ثمن معين كالتمر والقمح والشعير وغيرها.
وكشفت الوثائق وجود حس اجتماعي في بُرَيْدَة وبعض البلدان المحيطة بها في مطلع القرن الثالث عشر الهجري, حيث نرى من خلال ذلك أن أمير بلدة المُرَيْدِيْسِيَّة يتصرف بإحدى الأراضي بناءً على قرار جماعي من أهل القرية، لصالح بيت مال تلك القرية، وبحضور مجموعة منهم للصفقة, علمًا أن الشراء الأول لهذه الأرض كان بموافقة جماعية، ويتضح دور بُرَيْدَة التجاري في محيطها، وتبادلها للمصالح التجارية بقوة مع عدد من المناطق النجدية والعربية ومع الكويت خصوصًا من خلال الرسائل الشخصية بين سليمان العُمري من تجار بُرَيْدَة وعثمان الحميدي من تجار الكويت. رغم صعوبة الظروف المحلية والعالمية، حيث أثبتت الرسائل والوثائق أنه رغم الاضطراب وما حدث للعالم خلال الحرب العالمية الأولى، فإن تبادل المصالح استمر والتجارة بين المدينتين لم تتوقف رغم كل الظروف والصعوبات المحيطة، وتشير الوثائق والرسائل خصوصًا إلى أحداث تاريخية مهمة عاصرتها، مثل الحرب العالمية الأولى، وثورة الشريف حسين في الحجاز ضد الدولة العثمانية، واضطراب الطرق التجارية من وإلى الكويت في بداية توحيد المملكة العربية السعودية، وتبادل المعلومات المتعلقة بذلك بين التجار من خلال رسائلهم المتبادلة، وتوضح مجموعة من الرسائل الموثقة والواردة في هذا المجموع قوة الصلة التجارية بين بُرَيْدَة والكويت وأن الكويت كانت مصدرًا أساسيًا للسلع إلى نجد عمومًا وإلى بُرَيْدَة خصوصًا. كما توضح دور الزُلفِي وأهلها في الربط بين بُرَيْدَة والكويت ونقل البضائع والسلع وتبادل الرسائل والمعلومات. في وقت تعتبر بُرَيْدَة مستوردة وشبه معدومة التصدير للسلع إلى الكويت.
تصفية الحسابات
ويلاحظ من كشوف الحسابات التي أوردت نماذج منها أن المبالغ المرتبطة بالحسابات بين الأطراف المختلفة كانت دقيقة ومفصلة وواضحة، يرجع لها في تصفية الحسابات بين أصحابها من التجار وغيرهم، ويتضح من خلال الوثائق مشاركة الأبناء أو الإخوان أو بعض الأقارب والأرحام في التجارة أو التوثيق والشهادة في كثير من الأحيان، ومن خلال مؤشرات محددة للسلع المذكورة في بعض الوثائق والمستخدمة في تصنيع الأواني يمكن الجزم بازدهار حركة التصنيع المرتبطة بها في بُرَيْدَة، ويلاحظ دور كبير لأهل الزُلفِي في التواصل التجاري بين الكويت وبُرَيْدَة سواء في نقل البضائع كجماميل أو النيابة عن تجار الكويت في استلام المبالغ المالية وتوصيلها, وورد أسماء الكثير منهم في الرسائل الخاصة، كما شارك رجال من قبائل مختلفة في تبادل المصالح مع بُرَيْدَة وتجارها. ويتضح دور قبيلة مطير ورجالها، خصوصًا في التواصل التجاري ونقل البضائع بين بُرَيْدَة والكويت، من خلال الأسماء الواردة في الرسائل الموثقة في هذا المجموع، وتبين من البحث وجود نقص كبير في الموسوعات التي تُعرِّف بالمصطلحات والألفاظ المستخدمة في تلك الفترة والتي تشرح الألفاظ المستخدمة في اللغة الدارجة العامية في نجد.
مراكز توثيق
وقدم د. عبد العزيز بن إبراهيم العُمري مجموعة من التوصيات نرى من الأهمية بمكان الأخذ بها والاستفادة منها من قبل الجهات المعنية، ومن ذلك ضرورة الاهتمام بالوثائق العائلية والمستندات الخاصة بالحفظ والعناية والدراسة، وبذل الجهد في حفظ صور جانبية من الوثائق بالوسائل المعاصرة وإتاحتها للباحثين والدارسين، وخصوصًا طلاب وطالبات الدراسات العليا, حيث يمكن الاستفادة من محتوياتها في دراسة التاريخ عمومًا، والتاريخ الاجتماعي والاقتصادي خصوصًا, وتاريخ البلدان, والعائلات والأنظمة العدلية والاجتماعية وغيرها، وضرورة وجود مراكز توثيق محلية على مستوى المناطق والبلدان ووطنية متخصصة تعد أرشيفا للوثائق الخاصة يستفاد منها للأجيال القادمة والحالية، كما أنه يمكن الاستفادة منها في العلاقات بين المدن والبلدان، وغير ذلك من جوانب التاريخ المفيدة, وعلى رأس ذلك التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، وينبغي أن تولي مراكز البحوث المحلية جمع المتاح من هذه الوثائق والعناية بها بالترميم والحفظ, واستخدام تقنية حفظ المعلومات في نشرها, وسهولة تبادلها والوصول إليها، مع أهمية دراسة الوثائق المتوفرة من قبل مراكز البحث والمختصين, والحرص على البحث عنها لدى ذوي العلاقة, وتشجيع طلاب الدراسات العليا على الاستفادة منها، وضرورة إيجاد المزيد من المعاجم المختصة للفترات التاريخية الحديثة، للتعريف بالألفاظ والمصطلحات والعملات وغيرها الواردة في تلك الوثائق التي يصعب على الجيل المعاصر.