د. حسن بن فهد الهويمل
نحن لا ننكر البواعث الحقيقية للتشظي، ولا نتجاهل الحواضن، والأجواء الملائمة، ولكن استباقها من فئات الكتبة يزيد من فداحتها.
الصراع على السلطة، وتعارض المصالح، وتعدُّد الطائفيات، والعشائريات، وسائر العصبيات، والتعصبات، والانتماءات هي الوقود المؤجج لواقع الأمة المُزْرِي.
ومهمة إطفاء الفتنة، والتوفيق بين وجهات النظر، والخلوص من تعدُّد الانتماءات، والعمل على تكريس المواطنة، وتوحيد الهوية، والهم، والخلوص من الأحلام الطوباوية تقع على كاهل الكتبة.
لقد كَرَّست الأحزابُ، والمنظمات التي ترفع شعار الدِّين [الهوية الأممية]، وشككت في شرعية الكيانات الوطنية، وأجهش وراءها العاطفيون، الذين يجهلون أبسط قواعد اللعب.
والكتبة المتعلمنون ينظرون إلى الدول القائمة المتصالحة مع شعوبها على أنها لا تملك مشروعية الوجود.
ولو أنّ [هؤلاء]، و[أولئك] عمدوا إلى إصلاح البيوتات من الداخل لكان خيراً لهم. الكاتب المصلح من يعالج الظواهر، ولا يمارس الهدم. والكاتب القدير من يخفق بجناحي: المعرفة، والوعي. ويتحلى بالنقد المعرفي، المتفادي للتجريح، والتنفير.
فاللغة العنيفة تُخَلف الفرقة، والشحناء. وتُحَوِّل النقاد إلى [ميليشيا] ثقافية، و [سادية] عدوانية.
لقد تحوّلت بعض الأقلام إلى أصابع [ديناميت] توجهها أدمغةٌ مُفَخَّخَةٌ.
وليس ببعيدٍ عن أولئك من يظن أنّ تدخلات قوى الاستبداد، وحضورهم في سائر القضايا، والمواقع ممارسةٌ إنسانيةٌ شريفةٌ. هدفها هدايتنا إلى الصراط المستقيم واستقامتنا على العدل، والإحسان، وحلُّ أزمة الحكام.
إن سَعي الغرب في أرجاء عالمنا ممهورٌ بـ [أجِنْدةٍ]، ومصالح، و[أيديولوجيات] تفيده. وتبقي على ضعفنا، وتخلفنا، واختلافنا، وتنازعنا.
وقد يسهم البعض من كتّابنا [المُتَبَرْقِشِين] في تهيئة الأجواء، لكي يبيض الغرب، ويصفر، ويُنقر ما شاء أن ينقر:-
[قَدْ رَجَلَ الصَّيادُ عَنْكِ فَأبْشِرِي
وَرُفِعَ الفَخُّ فَمَاذَا تَحْذَرِي]
- حذفت نون - تحذرين - للضرورة الشعرية -
الكُتَّاب بمختلف اتجاهاتهم، ومستوياتهم هم صناعُ الأنساقِ. والأنساقُ كما الطاقة في أرضية [ملاعب الأطفال] تحرك العربات، وإن سيطر الأطفال على المقاود.
وأخطر الممارسات الكتابية تمهيد الطريق للأجنبي، وتمكينه، بدعوى الإنقاذ. فيما تكون الأمة السوية مستبدةً في إنشاء أنظمتها، وتنفيذ طرائق أدائها و:-
[ما حَكَّ جِلدَكَ مِثلُ ظُفرِك
فَتَوَلَّ أَنْتَ جَميعَ أمْرِك].
وإذ يختلف الكتّاب حول [نظرية المؤامرة] فإنّ العقلاء العالمين المجربين لا يتوسلون بها للتبرير، ولا ينكرونها للتمرير. فالمستبعد مكابر، والمعول متنصل.
تناقضات جعلت أمتنا في مأزق. والكتبة شركاء في صناعة المأزق كلها، سواء ما رسوا الخطيئة قصدًا، أو عن سوء فهم.
إنّ بإمكان الأمة ألا تبلغ الدرك الأسفل من المهانة، والذل، وتفريغ كافة الأوعية من محتوياتها المحققة لوجودها الكريم لو أنّ الكتّاب وعوا المشاكل، واستوعبوها، وتعرفوا عليها، ولم يُعَرَّفُوا بها. إن التلقي المسترفد لا يزيد الأمور إلا انتكاسًا في ردغة التبَعيَّة المهينة:-
[فأَمْنَعُ نَوَالَكَ عَنْ أَخِيكَ مُكَرَّمًا
فَالَّليْثُ لَيسَ يَسيغُ إلَّا مَا أفْتَرس]
واجب الكتبة الناصحين، المخلصين أن يَفْرُوا الفراء، وأن يَرْفُضُوا التلقين، بل يمارسوا التفكيك، ويستخدموا أدق المجسات، وأمْضَى المسابير، لكيلا يؤخذوا على غرة.
عيب البعض من الكتبة التناقض، وانعدام المواقف، والميل مع الريح حيث تميل. وليس معيبًا تدارك الخطأ، ومراجعة الرؤى، والتصورات بين الحين والآخر، على ضوء المستجدات. فكل قائل في الشأن العام يؤخذ من قوله، ويرد.
ولما كانت المبادئ ثابتة، والمصالح متغيرة فإنّ البراعة في رصد تقلبات الطقس، والتكيف مع تغير المصالح، والحيلولة دون تداخلها مع الثوابت. إذ من المزري ألا يفرق الكاتب بين تعارض المصالح، وتعددها، وتنوعها، وجزرها، ومدها، وثبات المبادئ ورسوخها.
[السياسة فن الممكن]. والعاجزون عن ملاحقتها في تقلباتها، لا يحققون لعشيرتهم إلا ما حققته [براقش] لأهلها.
بعض الكتبة يخرج من فضائه التنويري، التقويمي، الإرشادي الواسع الشامل إلى الممارسة النَّضاليةِ، في ظل التجزيئية الطائفية، أو الحزبية، مستدبرًا هم أمته القومي، الوحدوي، الإسلامي، أو القطري على الأقل.
وفي هذا المسلك يرتكب الكاتب حماقات متعددة، تفقده أهم مهمات [كتَّاب الرأي]، وتحوله إلى نائحة مستأجرة ، وبوق له دوي كدوي الرعد.
لقد تحوّل النفعيون من الكتّاب إلى مناضلين قنواتيين، مثلهم كمثل [شيوخ القنوات] الذين يستبقون الأضواء، وتسبق أيديهم ألسنَتَهم لقبض الثمن.
حتى لقد أصبح كل شيء [بِزْنِس]. وأصبح منهج [التيسير] مُرَوِّجًا للسِّلع. وعلى هديه ترى الحزبي راقصًا، أو مغنيًا لمجرد تكثير السواد، ومخادعة الغوغاء.
الثقافة بوصفها سيدة الموقف: كسب معرفي، وسلوك حضاري، واستقامة على المأمور.
فمن تضاءلت معارفه لم يكن مثقفًا. ومن كثرت معارفه، وتنوعت، وساءت أفعاله، لم يكن مثقفًا. لابد من تفاعل المكوّنات، ليتحقق المسمَّى.
من الظواهر المزرية [نخاسة الفكر] عند من يشرون أنفسهم ابتغاء الفتنة، وابتغاء التضليل.
وسواد الكتاب أو زاع بين أدعياء لا يعون، وواعون مُحَرِّفون للكلم. والأمة بين أقلامهم كالكرة بين أقدام مهرة اللاعبين.
الثقافة السوية عمادها العمق، والشمول، والحوار الحضاري، والثبات على المبادئ، والتفسح للمخالف، والتسامح مع الغير، والإصغاء لكل الخطابات، بحثًا عن الحق، بوصفه ضالة المؤمن، والشعور بأنّ اليقينيات، والأفكار نسبية، وأن ما سوى الثوابت قابل للمراجعة، والتغيير.
ومن لم يمتلك الجسارة على نقد الذات، لا يمتلك مشروعية نقد الآخر.
[القلم] معادل للبندقية، فالقلم السيئ يقتل القيم، والبندقية الطائشة تقصف الأرواح:-
[وإنّما الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ
فَإنْ هُمُوا ذَهَبَتْ أخْلاقُهُم ذَهَبُوا]
لابد للكتّاب من قراءة الذات قراءة نقد، وتقويم. ومن لم يتعهد نفسه بالمساءلة، والمراجعة أساء لها من حيث يريد النفع.
ومن استخف بالكلمة أردته من حيث لا يحتسب.