د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يعمد المؤدلجون إلى قولبة الفكر الأيديولوجي في عبارات مجازية تمنحهم المرونة اللازمة لتوظيفها بشكل فعال سواء لحشد المؤيدين أو وصم الأعداء. فتهمة البرجوازية كانت كافية لإعدام فرد يعيش في دولة شيوعية، وكان وصف شيوعي كافيا لطرد صاحبه من العمل وإدخاله للسجن إبان المكارثية في أمريكا. أوصاف «الصحوة» أو «رباني» أو «علماني» أو «ليبرالي» هي أيضا قوالب مجازية جاهزة تقاذف بها البعض البعض الآخر في مجتمعنا فيما مضى من عقود. وقد مر العالم في الثمانينيات بفترة إعادة تأهيل الدين والمذهب ليس على مستوى منطقتنا بل على مستوى العالم لمواجهة ما وصف بالتفسخ الأخلاقي في العالم الغربي: حركات «الهيبز»، و«البوهيميين»، و«العدميين» الخ. ممن شكلوا ثقافات داخل ثقافات وتسببوا في تراجع الاقتصاد العالمي الرأسمالي. كما سبب المد الشيوعي المتسارع آنذاك قلاقل سياسية في الغرب. ولذا أعلن «رونالد» ريجان سياسته لإعادة تأهيل الأديان عملياً لمحاربة المد الإلحادي الداهم. ووافق هذا التوجه في منطقتنا ما سمي بالجهاد الأفغاني، وتأهيل آية الله خميني لاستلام السلطة في إيران بعد إعدام كل من يمت للاشتراكية والعلمانية بصلة في إيران. واكتشف العالم اليوم أن التطرف الديني والمذهبي، كغيره من أشكال التطرف تحول في حد ذاته إلى بعبع لا يقل بشاعة عن نقيضه الشيوعي. فالتطرف في أي فكر مصدر خطر ولو كان ذلك في فكر الرفق بالحيوان، فقد فجر المتحمسون للرفق بالحيوان المختبرات وقتلوا الباحثين من أجل حماية فئران المختبرات.
المتطرف عادة دوغمائي يأخذ فكره كعقيدة وحقيقة مطلقة حتى ولو كان محل خلاف ويتناقض مع الواقع والمنطق. وإذا اجتمعت الدوغمائية مع الجهل تحول الفكر إلى سلاح مدمر خطير، وصاحبه إلى كائن عدائي يستحيل التعامل معه، أو أن يؤمن جانبه. هو دائماً على حق تام وغيره على ضلال مبين. تتحول ما تتناقله جماعته من نصوص انتقائية مبتسرة إلى حقائق دهرية مطلقة تثبت نفسا بمنطقها. ساد هذا الوضع للأسف بعض قطاعات مجتمعنا في الثمانينات حيث قسم البعض المجتمع بشكل ثنائي قطبي لمعسكرين: صحوي رباني صالح، وغير صحوي (غفوي) دنيوي فاسد، الأول يصدق تلقائياً كل ما يقال له، والثاني يعمل عقله ويطرح تساؤلات حول ما ينقل له.
ما كانت الجامعة آنذاك، وربما غيرها من جامعاتنا، استثناء من مجتمع الصحوة إبان الجهاد الأفغاني، وكان للصحويين نصيب الأسد من الإدارات والمناصب، ومن لم يكن صحويًا فعلياً تظاهر بأنه كذلك مصلحيا. ولم يكن مستغرباً أن يتحلق حول عضو هيئة التدريس المشكوك في صحويته مجموعة من زملائه يقنعونه بأن الطير الأبابيل، وليست صواريخ ستينقر الأمريكية، أسقطت الهيلكوبتر الروسية، وأن أيادي بيضاء خرجت من قبر الشهيد لتصافح الزوار. أما أجساد الشهداء فتفوح برائحة المسك، والأخيرة خدعة اعتراف الأفغان فيما بعد بممارستها على بعض الصحويين المتحمسين من أجل دفعهم لجلب المال من التبرعات.
لم يكن الطلاب أحسن حالا، فكان حال طلاب المذاهب الأخرى غير مريح مطلقاً على الرغم من أن إدارة الجامعة فعلت كل ما تستطيع لتسهيل أمورهم وأمور ممارسة عبادتهم بعيدا عن أنظار زملائهم الصحويين. وشن الطلاب غزوات متلاحقة على المكتبة لتطهير الكتب من كل ما هو دنيوي وغير رباني ففكرت الجامعة في الاستعانة برجال الشرطة لحراسة الكتب أيضا. مزق بعض الطلاب أطالس الطب وكل ما فيه تجسيد بشري، ومزق زملاؤهم الأكثر تطرفا كتب ودوريات الجغرافيا والاقتصاد والسياسة والإعلام لاعتقادهم أنها علوم دنيوية تتناقض مع الدين، فالاقتصاد في رأيهم هو الاقتصاد الإسلامي، وعلم السياسة المقبول هي تاريخ السياسة الإسلامية فقط.
انحسر التطرف إلى حد كبير في التسعينيات لظروف لا مجال لذكرها، وحدث انقلاب في مظهر كثير ممن عهدناهم صحويين في الجامعة، غير أن هذه المرحلة خلفت جروحًا غائرة في الوعي المجتمعي دفعت البعض للأسف للانخراط في نشاطات معادية للمجتمع فيما بعد، ودفعت بآخرين لممارسات مشابهة في معارض الفن والكتب لتلك التي مارسوها في مكتبات الجامعة. واليوم، ولله الحمد بدأ المجتمع «يفيق» من صحوته ليغفو قليلاً وينعم ببعض الراحة والسلم الاجتماعي. عرف الناس نعمة الوسط والوسطية وراحة التعايش بلا صراعات أيديولوجية أو تنابز بالمصطلحات المجازية. أصبح اتهام الآخرين بالتقصير في الدين أو إسقاط أوصاف التهميش عليهم جريمة يعاقب عليها النظام. جرت كتابة هذا المقال لمن لم يعايشوا تلك الفترة المهمة في حياة مجتمعنا.