محمد القشعمي ذاكرة ثقافية متحركة. سيقول الكثيرون عن ذلك الرجل عبارة كهذه، وسيصدقون، فهو بالفعل ذاكرة ثقافة، وحافظة جيل، بل أجيال. تستمع إليه فتستعيد ما أنجزه أفراد كثيرون بعضهم عرفهم أبو يعرب عن قرب وبعضهم عرفهم عن بعد، لكنه في كل الحالات كان دقيق الملاحظة، مدققاً في التفاصيل، متتبعاً للأهم، وفي الغالب لما لا يقال عادة مما يشطبه قلم الرقيب ويستبقيه قلم القشعمي.
لكن الذاكرة التي يمثلها أبو يعرب، والتي تمثلت في العديد من الكتب عبر ما يربو على العقدين من الزمن، ليست مهمة بحد ذاتها فحسب وإنما بما تمثله أو تذكر به. أقصد أن متابعته التأريخية للعديد من الشخصيات والأحداث وحفظ سجلاتها يحمل أهمية مضافة إلى أهمية الأعمال نفسها: إنها أهمية رمزية أو معنوية. تذكرنا جهود الرجل بأهمية الحفاظ على تاريخ يتسرب من بين أيدينا مع كل يوم يمر وكل عمل يتأجل أو لا ينجز. نتذكر بمنجزه منجزات مؤسسية غائبة ويملؤها أمثال أبي يعرب لاسيما في بلاد يغادر شفاهيته وأميته بسرعة، أو غادرها، ويكاد ينسى الكثير مما ليس من التاريخ الرسمي للبلاد.
انشغل محمد القشعمي – منحه الله الصحة وطول العمر – في بدايته، حسب علمي، بمشروع في مكتبة الملك فهد الوطنية هو مشروع تدوين التاريخ الشفوي وقد سجل العديد من الأشرطة الصوتية مع العديد من الشخصيات لاسيما من كبار السن. ثم تابع ذلك المشروع صوتاً وصورة حين صار التسجيل المرئي مطلوباً وذا أهمية. لكنه في تلك الأثناء التفت إلى مسألة التأليف التدويني حين تذكر أنه هو يملك ذاكرة جديرة بالتدوين. لم يكن بوسعه أن يجري لقاءات مع نفسه أو يترك تسجيلات صوتية أو مرئية، وهو صاحب المشروع، فاتجه للكتابة، وحسناً فعل. فقد أنجز من خلال ذلك رفاً من الكتب التي تحفظ لهذه البلاد تاريخها، تاريخ أشخاصها ومؤسساتها ومنجزات تطورها من بلاد على أعتاب التنمية إلى بلاد تصعد إلى شرفاتها بسرعة غير عادية.
وإذا كان تدوين التاريخ الشفوي، لاسيما تاريخ الرجال أو الأعيان، مما يشارك فيه القشعمي عدد من الباحثين، فإن مما يميز أبا يعرب خفة الظل وظرف الملاحظة ودقة الملمح. إنك لا تمل القراءة لأن النص المكتوب أمامك لا يختلف كثيراً عن النص المنطوق إن قدر لك أن تستمع إلى الرجل وهو يحكي شيئاً من ذاكرته الخرافية. وهذه موهبة نادرة تجعل الرجل من سمات المرحلة ومعالمها الثابتة. لقد أسعدني وشرفني أن عرفت الرجل عن قرب ومن أبسط حقوقه علي وعلى غيري ممن يعرفونه أن يعبروا عن أهميته ويبرزوها لأجيال قد تنسى.
- د. سعد البازعي