تعرفت إليه في حائل حين تلقيت دعوة كريمة من الصديق الدكتور محمد السيف في حائل إلى ثلوثيته التي دأب فيها على تكريم الأقلام النبيلة وفاء وفضلاً، وكان المكرم في تلك الليلة الاستاذ محمد القشعمي، ثم كانت لقاءاتي به، بعد ذلك في مناسبات مختلفة شرفت فيها بإهداء كتبه، لمست إِنسانيته ونبله، فكان ودودًا كريمًا فاضلاً في تعامله وقد أحاطني بمحبته وكريم سجاياه.
ولعل أول ما يلفتك فيه بساطته وعفويته وحسن سجاياه، يتجلى ذلك في حرصه على الكتابة عن شخصيات يرى أنها تستحق أن تبقى حية في ذاكرة الأجيال، وكذلك حسّه التاريخي المتوهج، فهو يختزن في ذاكرته وقائع ومواقف وأحداث تدل على رهافة حس وعميق تأمل وشفيف مشاعر، ثمة روح نبيلة توّاقة لمساعدة الآخرين والحرص على الحضور في قلب اللحظة التاريخية والتفاعل معها، تيقّنت من ذلك حين كنت أحاول إعداد كتابي عن الراحل الفاضل الإنسان فهد العريفي -رحمه الله- بتكليف من نادي حائل الأدبي الذي كان وما يزال يجسد قيمة الوفاء لأبنائه من الإعلام الفضلاء، وهو ما لمسته من أبناء هذا البلد الكريم طيلة إقامتي فيه (ما يقرب من ربع قرن)،
وليس من شك في أن محمد القشعمي صاحب مشروع ثقافي طموح يرتكز على:
أولاً - التأصيل، فهو شديد الحرص على الإمساك باللحظات الهاربة في تاريخ الثقافة الوطنية خشية تسربها من بين أصابع الزمن.
ثانيًا - الوفاء لأصحاب الفضل لقاء ما أسدوه لبلادهم من أيادٍ بيضاء.
ثالثًا - التأريخ والتوثيق للظواهر الثقافية والمشروعات التأسيسية، فهو حريص كل الحرص على أن يقبض على حرارة المواقف المفصلية قبل أن تفتر وتتلاشى.
لقد نشر ما يقرب من ثلاثين كتابًا وشارك مع غيره فيما يقرب من هذا العدد وترجم له وكتب عنه آخرون في ستين كتابًا ونشر مئات المقالات والمدونات في الثقافة والأدب والاجتماع.
ولعل من أهم كتبه (رواد الصحافة في المملكة العربية السعودية: صحافة الأفراد) الذي صدر عن نادي تبوك الأدبي ودار الانتشار في العام الماضي 2016م.
واللافت فيه حقًا أنه يجسد القيمة الرئيسة التي تعد مفتاح شخصيته، وهي الوفاء لكل من خدم الوطن والثقافة العربية في المملكة، فهو يرى أن للرواد من الصحفيين الأول الحق في تكريمهم واستذكارهم وبقائهم في ضمير الأجيال فنراه يكرّس هذا الحق ويعلى من شأن تلك القيمة الإنسانية النبيلة مشيدًا بجهودهم على الرغم من شح إمكاناتهم فيتقصّى أخبارهم ويعرّف بإصداراتهم ويؤرّخ لها ويأتي بالشواهد والوثائق من صور وأغلفة ومقالات حول هؤلاء الرواد الأوائل.
وكتابه (الفكر والرقيب) وثيق الصلة بما سبقه من حيث علاقته بالصحافة، ينبئ عن رؤية فلسفية فكرية محفوفة بوعي تاريخي عميق؛ إِذ كانت له وجهة نظره الخاصة المشفوعة بالتتبّع التاريخي لفكرة الرقابة على الكلمة عبر التاريخ التي انتقلت من الثقافة الغربية وتم التشريع لها عبر القوانين والأنظمة؛ مميزًا بين الاعتدال والتطرف في مضمون هذه الأنظمة وتنفيذها، وقد عمل على الموازنة بين المشروعية والتجاوز راصدًا - عبر الأمثلة الحية والشواهد والتجارب - ما أفضت إليه الرقابة في أشكالها المبالغ فيها من حجر وتقييد انتهى ببعض أصحاب الرأي إلى ما لا تحمد عقباه، وضرب الأمثلة والشواهد الحية على ذلك من خلال الوقائع الموثقة.
ولعل الميدان الأبرز في مسيرة محمد القشعمي كتب الإعلام وسيرهم وهي شاهد على القيمة الكبرى في حياته الثقافية، وهي الوفاء، ومنها كتابه طه حسين في المملكة العربية السعودية، وهو من الكتب المهمة التي وثّقت لمرحلة مهمة في التاريخ الثقافي العربي والمؤثرات التي كان لها دورها في التفاعل بين الأقطار العربية عبر التواصل بين أدبائها، وقد صدر هذا الكتاب مسجلاً تفاصيل الرحلة منذ أن وطئت قدما طه حسين أرض المملكة حتى غادرها، وذلك بوصفه رئيسًا للجنة الثقافية للجامعة العربية، حيث انعقد مؤتمرها الذي دام ما يقرب من عشرين يومًا، وقد أعد له برنامج حافل تتبعه الاستاذ القشعمي ووثّقه اعتمادًا على ما ذكرته الصحف التي صدرت تلك الأيام وخصوصًا جريدة البلاد.
ثم كتابه (عابد خازندار مفكرًا وكاتبًا ومبدعًا) وهو كتاب مهم ألفه من خلال رؤية واعية بالدور الذي نهض به الكاتب الراحل، فقد اعتبر أنه كان يمثل مشروعًا تنويريًا متكاملاً، معرجًا على جهوده النقدية والأدبية ومشاركاته التأسيسية للوعي الإبداعي ومفاهيمه النظرية وشقه الطريق أمام المرأة من خلال الصفحة النسائية في عكاظ التي أسهم في تحريرها وأعمدته الصحفية، ومنها (دثار) عموده الشهير ومقالاته وحواراته وتعقيباته ومحطات حياته المختلفة، وقد أبرز دوره الكبير في الحركة النقدية والثقافية ومدونًا في سفره هذا ما كتب عن خازندار -رحمه الله-.
وكتاب (بوادر المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية) ويأتي في سياق التأصيل للتاريخ الاجتماعي؛ إِذ يتتبع نشوء الطبقة المتوسطة عبر تاريخها ومؤسساتها، ويشفع ذلك كله بالأرقام والأسماء والجهات التي مارست الانتخابات عبر الوثائق والإحالة إلى المصادر، فهو لا يطلق الحديث على عواهنه بل يعتمد على مظانه الأصيلة بالتواريخ المحددة ومنشورات الصحف، فالمعلومة لديه قوامها التوثيق مما يحيل كتبه إلى أصول مرجعية يمكن للباحثين الاعتماد عليها والإحالة إليها، فمشروعه الكتابي مشروع تأسيسي؛ أما كتابه (بدايات: فصول من السيرة الذاتية، الصادر عن دار الكنوز الأدبية بيروت ط2، 1423هـ 2002 م فهو من الكتب التي أرّخت لمسيرة بلد، وليس لمسيرته فحسب.
ولعل من أهم الكتب التي تنتمي إلى مشروعه التأصيلي (كتاب سادن الأساطير والأمثال) لعبدالكريم الجهيمان ط1، 1421هـ 2001 م، الرياض (د.ن). وهو من الكتب التي كانت أشبه بقاعدة معلوماتية لرواد أسسوا للثقافة الوطنية والعربية، فالجهيمان كان رائدًا في هذا المجال، وقد أسس ما يشبه التراث الميثولوجي والشعبي الذي يفسر كثيرًا من الظواهر في تاريخ الجزيرة والعرب بشكل عام. يضاف إلى ذلك كتابه (رحلة العمر الفكر: عبد الكريم جهيمان) وكتاب (عبد الكريم جهيمان: عطاء لا ينضب) أضف إلى ذلك كتابه عن عبد الرحمن منيف بوصفه روائيًا متميزًا في فنه.
وفي هذا الاتجاه كان كتابه (سليمان بن صالح الدخيل صحفيًا ومؤرخًا ومفكرًا)
وهو أول صحفي من نجد وقد سافر إلى العراق وأصدر صحيفة أسماها (الرياض) تيمنا بالعاصمة وأصدر (الحياة) ثم (جزيرة العرب) تأكيدًا لانتمائه،
وكتابه تراجم رؤساء تحرير الصحف في المملكة العربية السعودية من أهم المشروعات الثقافية التاريخية، وقد استشهدت كاتب المقدمة باسم مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض على أهمية الصحافة في عصرنا ببيت شوقي:
لكل زمن مضى آية
وآية هذا الزمان الصحف
وقد رصد الصحافة في المملكة العربية السعودية رصدًا دقيقًا وعرف بكل صحيفة على حدة ثم تحدث عن رؤسائها فيما يقرب من خمسمائة صفحة، فتكلم عن أم القرى أول صحيفة سعودية وحدد تاريخ ضدورها في 12 - 12 - 1924 بعد دخول الملك المؤسس عبد العزيز -رحمه الله- مكة بأسبوع في أربع صفحات، وكان شعارها «وكذلك أوحينا إليك قرآنًا عربيًا لتنذر أم القرى ومن حولها» وقد ذكر أسماء ما يقرب من اثني عشر من رؤساء تحريرها ابتداء بيوسف ياسين وانتهاء بهاشم عزوز وعبد السلام عمر، ولم يغفل أدق التفاصيل المتعلقة بها من زيادة عدد الصفحات إلى الزوايا والموضوعات، ثم بدأ بالتعريف برؤساء التحرير ابتداء من يوسف ياسين الذي توفي عام 1962 وهكذا.
ولم يغفل المؤسسين الأول ممن لديهم تصورات إستراتيجية سواء في ميدان الثقافة أو الاقتصاد أو الاجتماع، فقد كتب عن عبدالله بن حمود الطريقي، أول وزير للنفط في المملكة العربية السعودية، بوصفة شخصية اقتصادية رائدة في مجالها، لا على مستوى الوطن فحسب، بل على مستوى الوطن العربي أجمع، فهو خبير نفطي ذو كفاءة عالية.
وهكذا فإن محمد القشعمي صاحب مشروع تأسيسي إستراتيجي بوصفه مؤرخًا وموثقًا لحقبة مهمة في تاريخ المملكة العربية السعودية في مجالات حيوية متعددة: في الأدب حيث تتبع المعارك الأدبية التي دارت حول قصيدة النثر وفي التطور الاجتماعي ونشأة المجتمع المدني أو الإعلام والصحافة والنقد وفن السيرة والترجمة وما إلى ذلك، وهو يستحق أن نلفت انتباه الباحثين من أبنائنا إلى تراثه الثقافي ليولوه العناية التي يستحق في دراساتهم.
و أخيرًا وليس آخر نتمنى له الشفاء العاجل ليكمل رسالته النبيلة ومشروعه التأصيلي.
- د. محمد صالح الشنطي