يمثل الأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي الشهير بأبي يعرب أحد أهم الشخصيات الثقافية الرائدة اليوم في مجال توثيق ما يُعرف حاليًا بالتاريخ الشفوي على نطاق المملكة العربية السعودية، بل ويُعَد أهم الراصدين لكثير من حكايات وأفعال العديد من روّاد الحركة الثقافية، فتجده مهمومًا بتتبع أخبارهم، مسكونًا بمعرفة كثير من تفاصيل حياتهم، حتى أني أزعم أن في ذاكرته الشيء الكثير عنهم مما بات خافيًا على ذويهم، ولعمري أن ذلك شغف لم يَعُد قائمًا بيننا في الوقت الراهن، كما أنه سلوك ينمُّ عن سعة ثقافة وعمق معرفي وسلوك إنساني مطرز بقيم أخلاقية عالية، يمكن استجلاؤها في عقل ونفس صاحبنا أبي يعرب.
لا أقول ذلك مبالغة، أو انطلاقًا من حب مسكون، وإن كان بدماثته وحسن تلطفه يستحق ذلك، وإنما أنطلق في قولي من تشخيص لطبيعة الواقع الثقافي الذي بتنا نعيشه، وهو واقع - للأسف - أخذ يغلب عليه طابع «الأنوية» مصحوبًا بجهل مفرط. وتلك هي عين الكارثة التي أصبحنا نعيشها ونراها صبح مساء، مع إطلالة عديد من مدّعي الثقافة ومنتحلي صفة الكتابة والأدب، الذين أوجدت لهم عددٌ من دور النشر فسحة لطباعة مصفوفاتهم اللفظية، فظنوا لغفلتهم أنهم قد بلغوا الجبال طولاً، ولو أن نفوسهم استكانت لوهلة، وأصغت لبعض حكايات أبي يعرب عن نضال وجهد جيل الرواد، وكيف أفنوا عمرهم بحثًا عن كتاب، وقضوا وقتهم يتأملون ويتدبرون ويناقشون، قبل أن يتجرأ أحدهم ويعلن بخشية وتردد عن نفسه ككاتب أو شاعر، لو أنهم عرفوا تلك الحكايات وتأملوها، لتراجعوا عما سطرته أناملهم، ولقرروا ثني الركب في محراب العلم والمعرفة قبل أن يقدم أحدهم للطباعة ما تخطه يده.
إنها ملامح الثقافة المفقودة اليوم، لجهل كثير من أبنائنا وبناتنا بأولئك الرجال الرجال، الذين تمكنوا بجهدهم ودافعيتهم، من صناعة بواكير النهضة الحديثة في المملكة العربية السعودية بوجه عام.
هكذا كان ولا يزال أبو يعرب حافظاً لذلك الزخم الوفير من الموروث، ولكن ليس في نسقه الكتابي وحسب وإنما في نسقه المعنوي وهو أكبر وأشمل وقلما تجد في زماننا يملك هذه الروح الشفافة التي تحرص على تفقد الآخرين بدافع المودة والعشق المعرفي.
- د. زيد الفضيل