لن يُضيف الحديث عن محمد القشعمي كباحث وكمؤرخ وكمهتم بالأدب وقضاياه، لن يُضيف للقارىء كثيرا، فأعماله على هذه الصعد منشورة ومطروحة على الساحة، وحاضرة في ذاكرة الثقافة محليا وعربيا، وتكفي ضغطة زرعلى أحد محركات البحث في الإنترنت لمعرفة من هو محمد القشعمي، وماذا قدم للثقافة، وللأدب، وللتاريخ، وتحديداً تاريخ الصحافة السعودية الذي يُفترض أنه يدين له بدين خاص نظير بحوثه واستقصاءاته التي جمعتْ شتاته، ووثقته، ووضعته بين أيدي المهتمين والباحثين.
لذلك إذا كان محمد القشعمي واحداً من مثقفي الصف الأول في البلد نسبة لنشاطه، وحضوره الطاغي، وازدحام برنامجه اليومي بالكثير من الملفات الثقافية التي يجيد التعامل معها بحرفية، مثلما يُجيد استقطاب الآخرين إليها كما لوكانت لوح شوكولاته، حتى وإن كانت ثقيلة الدم، فإنه سيختلف عن الكثيرين منهم بأنه المثقف الذي تنطبع ثقافته على سلوكه، فيكون السلوك - كل السلوك- بالنتيجة عند محمد القشعمي مُعطى ثقافيا، وليس مجرد انفعالات ومشاعر إنسانية. سأكون أكثر وضوحًا:
معظم المثقفين ينادون على مستوى الصوت واللغة بالحوار، وملاقاة الآخر في منتصف الطريق، لكنهم في الواقع لا يفعلون هذا، فلا يحاورون ولا يقابلون إلا من يشاركهم الرأي والرؤية، وقد يتخذون موقفًا عدائيا ومتشنجًا من مخالفيهم.
أيضًا معظم المثقفين يؤسسون صداقاتهم على قاعدة التماثل الثقافي، ويرفضون أي صداقة من خارج تيارهم، وخطهم الفكري، وقد يغضبون من أن يُوصفوا بأنهم أصدقاء لمن يختلفون معهم في المذهب الفكري، وكأنها شتيمة.
محمد القشعمي.. قدّم نفسه منذ عرفته قبل أكثر من ثلاثين عامًا على أنه المثقف المنفتح على الجميع، وعلى كافة التيارات الثقافية والفكرية، والذي يستطيع أن يحاور الجميع، وأن يصادق الجميع، دون أن يخسر موقعه، أو يتنازل عن قناعاته وأفكاره، ودون أن يضطر إلى السكون في تلك البقعة الوسطية المائعة والرمادية، والتي غالبا ما يلجأ إليها بعضهم للهروب من غضب كافة الأطراف، أو كمحاولة لاسترضائهم. وذلك لأن ثقافته هي محرك سلوكه، فهو يفتح خطوط اتصاله مع الآخر بناء على قاعدة الشراكة الثقافية، وهي بوابة عريضة في ذهنية القشعمي تسمح بدخول الكثيرين، وصولا فيما بعد للحوار بلغة المثقف، وليس لغة العنصر، وهذا هو الفرق الذي أحدثه القشعمي بإدارة علاقاته في قطاعات الوسط الثقافي والفكري سواء في الداخل المحلي، أو الخارج العربي، وهي معادلة سحرية قلما توفّرتْ مادتها الكيميائية للكثيرين، حيث تعجب من قدرة الرجل على جمع مالا تستوعب أنه يمكن لأحدٍ أن يجمعه، لكنه (أبو يعرب).
ذات مرة كنتُ في القاهرة لحضور معرض الكتاب برفقة والدي الروحي وأستاذي ومعلمي فهد العلي العريفي- رحمه الله-، وكان أن دعانا (أبو يعرب) مع مجموعة من المثقفين السعوديين والعرب إلى شقته في مدينة نصر، لكنه طلب مني أن أُعرّج على الدكتور خليل عبد الكريم- رحمه الله- لأصطحبه إليه، حينها لم أكن شاهدت الدكتور خليل، ولا أعرف شكله، وإن كنت قد قرأت بعض كتبه الخطيرة، فوصف لي (أبو يعرب) العنوان: الدقي- ميدان جوهر، عمارة كذا...، وعندما وصلتُ إلى المكان عبر تاكسي من نوع (لانسر) وهي سيارة صغيرة جدا، هاتفتُ الدكتور خليل من إحدى الصيدليات «لم يكن هنالك جوالات في ذلك الوقت»، وقلت له أنني أقف أمام الصيدلية بانتظاره.
يبدو أن الرجل كان يفتش عن شخص سعودي يرتدي الثوب والشماغ، وأنا بدوري كنتُ أنتظر أستاذ الجامعة الأزهري الذي تنكّر للأزهر، وخلع جلبابه، واستعاض عنه ببدلة السموكن وربطة العنق.
انتظرتُ طويلا، لم يأتِ الدكتور، فعاودتُ الاتصال به مجددًا من الصيدلية، فقال لي إنه نزل إلى الشارع قبل قليل، ومرّ من أمام الصيدلية ولم يعثر على أي أخ سعودي يقف هناك، فوضّحتُ له أنني لا أرتدي الزي السعودي، وأكّدتُ له أنني سأقف له بباب الصيدلية تماما، وما هي إلا لحظات حتى وقف بوجهي رجل عملاق، ضخم الجثة بشكل كبير ومخيف، ويرتدي الجلابية والعمّة الصعيدية، وكان فيما يبدو في مزاج غير طيب، مما زاد الأمر سوءًا، وأعطب لغة التفاهم فيما بيننا منذ اللحظة الأولى.
أخذته إلى سيارة التاكسي التي كانت تقف على الرصيف المقابل، وكان الرجل كثير الالتفات، وعندما همّ بركوب التاكسي، كان الأمر مستحيلا نسبةً إلى ضخامة جثته، وصِغر حجم السيارة، فغضب حتى انتفختْ بعض عروق رقبته، وانطلق بحفنة من السباب والشتائم، فهمتُ من بينها:
«إيه.. إنت ما تعرفش إني أنا مطلوب من الجماعة إياهم... روح يبني الله يسترك، ولمّا تجيب سيارة زي الناس يبقى تعالى». قلت في نفسي: « لاوالله إنت اللي مش زي الناس»، ولولا احترامي وعهدي لأبي يعرب لأخذت التاكسي وتركته.
استبدلتُ التاكسي بآخر أكبر قليلا، واستدعى الأمر أن ندفع المقعد المجاور للسائق إلى أقصى مدى لنحشر الدكتور المتذمر، الذي سقطتْ عمامته مرتين أثناء عملية الركوب العسيرة، وفي كل مرة كأنما سقطتْ عكا، لكنه حينما استوى على مقعده محشورا تمكّن ببعض أريحية من أن يرفع يده اليسرى فوق المرتبة ليترك لي مكانًا بجواره كعصفور، وبعد أن بدأ التاكسي يدبّ في شوارع القاهرة، وهدأتْ نفسه فاتحته بتلك السجالات الفكرية التي كانت تدور حينها بينه وبين الدكتور محمد عماره، والتي كانت تنشرها أخبار اليوم كما أظن، لكنه قبل أن يجيب اعتذر عن عصبيته، وأصبحنا أصدقاء، فسألته عن محمد القشعمي،
قال: «محمد دا أرطبون ثقافي ما تعرفش إزاي يقدر يلم الشامي ع المغربي «ضحكت، وأنا وقتها لا أعرف ما معنى أرطبون.
- فهد السلمان