يقول السياب: أتعلمين أي حزن يبعث المطر وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر... قد تحتار في مثل هذا الوصف المأساوي للمطر من عملاق الشعر العربي بدر شاكر السياب، ولكنه في أنشودته المشهورة (أنشودة المطر) كان يرى خير السماء والأرض منهوبًا في العراق:
لم يمض عام والعراق ليس فيه جوع وكل عام حين يعشب الثرى نجوع
نحن شعب الصحراء لا نستطيع إلا أن نبتهج للمطر، فهو مرتبط في وجداننا بغسل الريح من أطنان الغبار، ويستخرج الرائحة الطيبة المدفونة في الأرض، ونهرع إلى (البر) كأننا نرى الصحراء لأول مرة، فهي فجأة أصبحت صديقة! ومليئة بـ(الفقع) والأعشاب، وأصبحت الإبل رشيقة كأنها أجمل الغزلان، ونهرول للوصول إلى بطن البادية حتى لا تفوتنا قطرات! كأننا أطفال انفك أسرهم للتو.
هذه البهجة الموسمية لم تنقطع على تنوع الأجيال والخيرات، وتبقى في وجداننا انتصارًا على القحط والقيظ والعواصف والتوحّش والكسل والعزلة والزحمة والتلوث والمسافات. المطر يعني لنا الخير كما هو الحال للبشر في مختلف الأصقاع، ولكن ليس كأي خير، أنه ينتشلنا من اليأس، ويضخ فينا حياة جديدة، ويشعرنا بأننا لم نمت بعد! وبإمكاننا صهر أشد أنواع الفولاذ صلابة بطاقتنا - إذا هطل مجدد الطاقات ومفرّح الجماعات! ولا أبالغ إذا قلت إن أبا يعرب هو مطر الروح بالنسبة لي، أو ربما بالنسبة للكثير أمثالي!.. فقد كنت مأسورًا بعملي وعائلتي، ولا يخطر لي على بال أن أكتب مقالاً صحفيًا يومًا ما، فداهمني أبو يعرب بسؤال في إحدى الأمسيات ، لماذا لا تكتب؟ فقلت.. هاااه؟ ولكني لست كاتبًا! واسمي غير معروف! كيف يمكن أن أتغلغل في المعركة الصحفية القائمة؟ فأنا أقرأ ما اشتريه أو يقع في يدي من الصحف كل يوم! وأشاهد ما تكتبه الأسماء المعروفة من ذكور وإناث، فهم نوعان: الأول يكتب مديحًا لزميله الآخر وينتظر رد الجميل - على مبدأ (امسكلي وأقطعلك)، والثاني - وهو الأرجح- يكيل أحدهم الشتائم البذيئة وغير البذيئة لزميله الآخر للحط من شأنه كي يبرز هو، بعكس ما كان يفعله عنترة بن شداد يمتدح خصمه ليقول: إنني استطعت هزيمة هذا العملاق. لا يوجد إلا القليل النادر من الكتاب الذين يخرجون من هذه المهزلة من دون الحاقات، ثم من الذي يقبل بنشر مقال لاسم غير معروف؟
حسبت أنني أقنعت أبا يعرب بجدارة! فأمطرني بوابل من الكلمات والشتائم الأخوية! لا أتذكر منها سوى: إنك تمتلك رؤية، وليس من حقك أن تبقى صامتًا، أكتب وسأقوم أنا بنشر ما تكتب!... لا أخفي على أحد - كما أخفيت عن أبي يعرب ذاته في تلك الأمسية- أنني شعرت بذنب، بل بإثم عظيم، وتجرعت مرارة الذنب وليس الهزيمة، فهو لم يهزمني، بل جعلني أهزم نفسي، وانطلقت في وجداني طاقة كانت كامنة، وتزاحمت العناوين في رأسي، ولكني - كأي مواطن عربي- بقيت أقاوم وحاولت محاولة أخيرة يائسة، فقلت: أنا ناقص؟ إلا تكفي هموم العمل والبيت والأولاد كي أحمل هم الصحافة؟ ثم إنك كاتب مشهور يا أبا يعرب وترى كل الناس مثلك! كيف أكتب مقالاً صحفيًا وأنا أعجب كيف ينتقون هؤلاء الكتاب كلماتهم، وأشعر بعجزي أمام هذا الرونق المدهش؟... قلت ذلك وفي ذهني شيء آخر من (حتى)! وأبو يعرب كالعادة، لا تقف أمامه عوائق إذا وضع أمامه هدفًا، فقال وهو يضحك: أنا أتعلم منك أحيانًا كثيرة!... شعرت بإحراج لا مثيل له، كيف يمكن لكاتب وأديب بغزارة إنتاجه أن يقول هذا الكلام لشخص ليس له علاقة بعالم الصحافة والإعلام مثلي؟ وكانت تلك الكلمات هي الضربة القاضية، ولم يبق لي أمام أبي يعرب وأمام نفسي أي مبرر للبقاء في الظل، كما أن أبا يعرب يتعلم حتى من الأطفال الصغار، فهو أبعد ما يكون عن الاعتداد بالنفس، ومتواضع إلى حد الثمالة، ولا يستطيع تطويق نفسه ببرج عاجي والعزلة عن ميدان الحياة - كما يفعل معظم المشاهير العرب وغيرهم.
كتبت المقال الأول وكلّي شكوك أنه سيُنْشر، ففوجئت باستاذ كبير كإبراهيم التركي ينشره، بل يطلب المزيد! وبعد المقال الرابع أو الخامس - لا أذكر- وجه لي أبو يعرب ضربة قاضية أخرى، وهي أشد هذه المرّة بما لا يقاس، قال: كتاباتك ليست مقالات للصحيفة وحسب، إنما هي مشروع كتاب. فقلت: أبو يعرب لا تبالغ! ودعني أهضم أولاً أنني أكتب مقالات صحفية، بالرغم من أنه لا عملي ولا حيأتي كلها مرتبطة بأي شكل من الاشكال بالصحافة، وأنت جعلتني أتجاوز كل ذلك، والآن تريد مني أن أكون مؤلفًا؟ فقال: فكر بالموضوع!
أصدرت الكتاب الأول والثاني قيد الطباعة، ولا أفكر بالثالث، ولكن عندما يخرج أبو يعرب من المشفى بالسلامة بمشيئة الله، سوف يمطرني بوابل جديد من الكلمات والشتائم الأخوية كي استمر، أنا متأكَّد من ذلك! فهو لا يكل من تحريض الشعب كله على التفكير والنشاط والإنتاج، إنه ببساطة (ضمير هذا الوطن)، يعدي كل من يقابلهم بعنفوانه، وإني في غاية السرور والامتنان لمبادرة الاستاذ إبراهيم التركي بتخصيص عدد من المجلة الثقافية لجريدة الجزيرة من أجل محمد القشعمي، فأنا أشعر بأني مفطوم من المعرفة، وانتظر بفارغ الصبر لقائي المقبل معه... هذا ليس مديحًا لأبي يعرب، فهو أكبر من المديح، إنما بلقائه أشعر أني امتلأت بكل زهور الدنيا، عدا ذلك فأنا قاحل.
- عادل العلي