في أغلب المجتمعات الحديثة والديمقراطية، يعيش الفرد أكثر من ثلثي عمره عالةً على مُقدّرات الوطن، يَصرفُ سنينه ما بين الإعداد العام والتعليم الجامعي أو المهني، ومن ثم، قد يلتحق بسوق العمل مباشرة ليتسنى له المشاركة في العطاء والانخراط بالعجلة الإنتاجية.
ولنجاح تلك المراهنة فإننا نحتاج إلى جهود متضافرة لعدة وزارات ولبرامج عدة مؤسساتْ حكومية وغير حكومية. ولضمان تأهيل الفرد علمياً وتدريبه مهنياً كي نحصل على كادر في أحسن الأحوال متوسط الجودة أو متواضع الأداء. أما المتفوّقون والمتميّزون، فرغم نُدْرَتهم عددياً ونسبياً، وعلى الرغم من استعداداتهم الذاتية العالية وفروقهم الفردية الفائقة، إلا أنهم أيضاً يكلفون الدولة مبالغ طائلةً، فتلتزم الدولة بإعداد برامج مكثفة وطويلة الأجل حتى يتم إعدادهم وتدريبهم ومن ثم تعيينهم في مراكز الدولة المتقدمة.
أقول المراكز المتقدمة مشدداً على تلك العبارة، انطلاقاً من حقيقة يشهدُ بها الواقعُ المعاش كما يشهدُ لها التاريخُ الإنساني، من أن واجهةَ كل دولة حديثة وديمقراطية، هم الناجحون في حياتهم والمتميّزون عن أقرانهم والمتفوّقون في مجالاتهم. إذ هم من سيُسيّرون دفة البلاد وسيديرون مصالحَ العباد. هم من سيضع رؤيةً للمستقبل وأهدافا وخططاً تنمويةً للأخذ بيد المجتمع إلى منصات التقدم والازدهار.
هكذا تَرسمُ الأوطانُ الحديثة والديمقراطية ملامحها في ذاكرة الشعوب، من خلال إبراز المتفوّقين والمتميّزين من أبنائها على لائحة الشرف وتمكينهم وإعطائهم الفرصة وتوفير الدعم المادي والمعنوي.
فكم من عاصمة عُرفت واشتهرت بنصب معماري نادر، وكم من قومية كان رمزها وأيقونتها أديبا لامعا، وكم من لغة باتت معروفةً بشهرة شاعر مُلهم، أو روائي أو قاص بارع، وكم من حقبة زمنية أُرّخَت بحياة موسيقيّ مشهور أو فنان مسرحيّ قدير.
هؤلاء هم وجوهُ الوطن المشرقة، فيا ترى أينَ عُيونَه؟
إنَّ نجاحَ المؤسسات الحكومية وغير الحكومية يُقاسُ بقدرتها على توليد وإنجاب المُخرجات البشرية والكوادر التي تتناسب مع ما استثمرته من فكر وتخطيط ووقت ومال ورجال.
ولكن هل يا ترى يكفي أن نرصدَ مُوازنات ونُعدّ خُططاً لتوفير ما يحتاج إليه المجتمع من تربويين ومهندسين وكوادر صحية وأُخرى إدارية؟
ربما، ولكن السؤال الذي يبقى قائما هو: ماذا نحتاج للكشف عن المكنون والمدفون من الفنانين والشعراء والأدباء والكتّاب والمسرحيّين والنقّاد؟
هل استطاعت المدارس والمؤسسات التعليمية أن تقوم بدور الكشف هذا؟
بأَيّ مسبار نستطيعُ الكشفَ عن وجوه الوطن الثقافية والفنية والأدبية والمسرحية والموسيقيّة والغنائية والروائية والنقدية؟
قطعاً نحتاج إلى عين فاحصة وذائقة ذات حدس وبصيرة ذات نُبوءة. عينٌ ترى المواهبَ الشعرية والإمكانات الفنية والمهارات الموسيقية والغنائية وهي في مهدها، فتكتشفها وتشجعها وتأخذ بيدها إلى منابر الشهرة ومنصات النجومية في الداخل المحليّ والخارج الإقليميّ والدوليّ.
نحتاج لمن يستطيع أن يقرأ أوائل الكتابات وبذور المحاولات الشعرية لشاعر مبتدأ فيتخيلهُ شاعرٌ فحلٌ وقد ضجت الأسماع بتصفيق الجماهير واستحسان النقاد.
نحتاج لمن ينظر للبرعم فيرى فيه الثمرة، ومن يقرأ الخاطرة من كاتب مبتدأ فيتصور في ذهنه المقالة التي تكمن وراءها لنفس ذاك الكاتب والذي سيكون يوماً ما كاتباً مشهوراً أو إعلامياً لامعاً أو أديباً ذائعَ الصيت.
نحتاج لمن ينظرُ إلى الحاضر فيبصرُ المستقبل، نحتاج لمن يملكون بصيرة في الكشف عن لآلئ الأجيال الصاعدة والتقاط دُررَ المواهب الواعدة.
نحتاج للأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي -حفظه الله ورعاه- ولأمثاله من عيون الوطن. فقد واكب الأستاذ محمد القشعمي (أبو يعرب) الحركة الأدبية والفنية في المملكة العربية السعودية واهتم بالصحافة والأدب والفنون، فتواصل مع مؤسساتها واهم رموزها وأعلامها وواكبَ نهضتَها وشَهدَ تطوراتها. لم يعدم القشعمي حيلةً في رَفْد الحركة الأدبية بالأقلام الشابة والأصوات الفتية والمواهب الصاعدة والواعدة.
كان من السهل على أبي يعربَ تحديدَ منابع المواهب ومواطنها، سواء في النوادي الأدبية المنتشرة في محافظات المملكة ومدنها، أو في الجمّعيّات الثقافية التابعة لوزارة الثقافة في أنحاء المملكة، أو في الأُمسيات الأدبية والندوات الثقافية التي تقام في جامعات المملكة وكلياتها ومعاهدها، أو في معرض كتاب دَوليّ أو مَحليّ، أو مُنتدىً أو سَبتّية أو إثنينية أو أي دورية ثقافية أو صالون أدبيّ.
للقشعميّ في هذا المضمار امتيازاتٌ عدةٌ، أُولاها حبه الكبير لشباب الوطن وعشقه الكبير لعُرس فتيان الوطن وشبيبته وهم يمثلون المملكة العربية السعودية في الداخل والخارج. ثانيها، ذائقة القشعميّ الأدبية وملكاته الفنية، فقد كانتا عوناً له في نَقْد الجَيّد واستثماره واستبعاد الرديء. كما لا يمكن إغفال جَلَد القشعميّ على القراءة والمثابرة على الاطّلاع ومتابعة آخر وأحدث ما أُصدرَ أو طُبعَ من جهة، ولا شغفه وحرصه على قراءة حتى المسودّات والمخطوطات في الورش الثقافية والأدبية.
ولعل ملكات أبو يعرب في التواصل الاجتماعي الميدانيّ واتساع قاعدة أصدقائه، كان لهما الفضل الأكبر في الجمع والتوفيق بين الناشئين من المبدعين الشباب من جهة وبين الكوادر الحاضنة لهم من أكاديميين وشعراء وروائيين ونقاد مختصين من جهة أخرى.
يستحق الأستاذ محمد القشعمي عن جدارة لقبَ عينُ الوطنْ،
حمدا لله على سلامتك يا أبا يعرب ودمت عيناً للوطن.
- أحمد علي الشخص