حين أحاول الكتابة عن القشعمي لا أستطيع أن أكون طوع جاذبية الأرض ولا السماء، وأتلفت باتساع العينين والخيال .. لعلي أصطاد لغة عذراء، لم ينل منها صدأ التكرار، ثم أضحك على نفسي ضحك العاجزين عن التنفس تحت الماء. وتراني منادياً، لا نداء امرئ القيس، بل نداء أبي تمام:
يا صاحبيَّ تقصيا نظريكما
تريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهاراً مشمساً قد شابه
زهر الربى فكأنما هو مقمر
مطر يذوب الصحو منه وبعده
صحو يكاد من الغضارة يمطر
غيثان فالأنواء غيث ظاهر
لك وجهه والصحو غيث مضمر
ذلك لأن القشعمي كالطبيعة في الربيع تراه مشمساً ممطراً في آن. لا تراه حزيناً أبداً، ما عدا لحظات يشتعل فيها غضباً، وبسرعة ضوئية تراه مبتسماً. وأتحرق إلى أن أعرف من أين له هذه القدرة على خوض الحياة بكل صروفها منتشياً مليئاً بالفرح.
القشعمي ليس شاعرا يدعي قطف النجوم، وليس من حاملي الرماح الخيالية للبرهنة على حبهم للوطن وتصاعد أمنياتهم له بأن يظل متطورا على الدوام. كلا .. القشعمي يحب الإنسان -مطلق الإنسان- وبذلك فهو يحب كل الأرض وقدم ويقدم لوطنه ما عجز عنه الكثيرون .. وبصمت مطلق.
لم أر مثله يتقرّى أحوال الأدباء الذين بلغوا من الكبر ما يستدعي ميلهم إلى الدعة وترجل الفرسان .. ويروح متفانياً مادياً ومعنوياً .. ساعياً إلى إيقاد الحماسة فيهم لاحتضان الحياة ومواصلة العطاء .. فيكادون من حثه لهم أن يعودوا إلى الشباب، لولا قول عمنا:
خلقت ألوفاً لو رجعت الى الصبا
لغادرت شيبي موجع القلب باكيا
ومن خصائصه التي يمتاز بها أنه حين يلتقي بشخص ما لأول مرة يستطيع بسرعة الضوء أن يهدم كل الأسوار بينهما، بحيث يصبح ذلك الشخص كأنه يعرف القشعمي منذ ولدته أمه، وقد عانى كثيرا من تدفق الثقة بالآخرين: فكم من شخص اعتبره صديقاً حميماً وأغدق عليه يتكشف عن وغد كاذب، ولكن القشعمي يقابل هذا النكران بسعة صدر لا يقدر عليها إلا الملائكة الذين لا يعرفون الحقد على أحد.
كتبت عنه مرة، مقدماً كتابه الثري (بدايات) ما يلي: هذا الإصدار ليس فقط كما يقول ((فصولاً من السيرة الذاتية)) بل هو فصول من سيرة البلد الواقعية. هذا الكتاب الفريد لا شأن له بالبلاغة ولا طلاء الوجه بالصور الشعرية أو تقديم الواقع على طبق من الأخيلة. لا أبداً .. إنه مشك الواقع من يديه ووضعه أمام القارئ عبر صور عارية للحياة بنكهتها (الخام) يصبها أمامك صباً كتدفق نبع.
السؤال الذي كان يحرق لساني من أول سطر إلى آخر سطر: كيف نجا من العقد التي مر بها هذا الإنسان (القشعمي)؟ كيف تغلب على كل العقد؟ كيف لم يصبح عدوانياً وحاقداً، ناظراً إلى الحية والأحياء بعينين من جمر وشرر؟ إنها نعمة كبرى أن تتهاوى المعاول على إنسان ثم تبقى روحه شديدة المطر والصحو؟!
أيها الكثير. يا محمد القشعمي. ويا أيها
المعلم للأخلاق قل لي كيف؟
خلقت مبرءاً من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
- محمد العلي