أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ما جاء من عند الله سبحانه هو أُمُّ الحقائق؛ ولهذه الحقيقةِ الأمِّ لَذَّ لي الآن التَّرنُّمُ بمثل قولِ أبي الحسن القالي رحمه الله تعالى:
تَصَدَّرَ للتدريسِ كلُّ مُهَوِّسٍ
بليدٌ تسمَّى بالفقيهِ الْمُدرِّسِ
فحقَّ لأهلِ العلمِ أنْ يتمثَّلُوا
ببيتٍ قديمٍ شاعَ في كلِّ مَجْلسِ
(لقدْ هَزِلَتْ حتى بدا مِن هُزالِها
كِلاها وحتَّى سامَها كلُّ مُفْلِسِ)
وهذه على البحر الطويل أُطوِّرِهَا بألحاني التي ورِثْتُها عن العامَّةِ لِلَّحْنِ الجميلِ من قول سليمان بن شريم رَحمنا الله وإياه تعالى:
سَرَى البارِقَ الليْ لِهْ زِمانينِ ما سَرَى
صِدُوقَ الْمَخايِلْ بارِقِهْ يَجْلِبَ السارِيْ
قال أبو عبدالرحمن: رَفَضَتْ الدكتورة زينبُ الخُضيريُّ التأويلَ الكلامِيَّ عند (ابن رشد)؛ فقد تناوَلَتْه في غيرِ هذا الموضع على أنَّ (ابن رشد) كان لاهوتياً أراد التوفيق بين الدين والفلسفة!!.. وذلك تحصيلُ حاصلٍ؛ لأنَّ ابن رشد كان قبل كارِثَةِ التخييلِ والتجهيلِ فقيهاً مُسْلِماً؛ وهو في نفس الوقت فيلسوف تفرَّغَ لأعمال (أرسطو) فهماً وشرحاً وَتَرَسُّماً على أنَّها اعتقادٌ حقٌّ؛ فكان اتجاهُه للمقارنة محتَمَلاً من هذه الناحية بدافعٍ مِنْ مُيولِ النفس مالم تقمْ دلائلُ على أنه مدفوعٌ إلى هذا التوفيق تحت ضغْط الفقهاء؛ وهذا أيضاً أمر تناولَتْه الدكتورة في غير هذا الْمَوضع.. وما يبدو في توفيق (ابن رشد) وتلفيقِه مِن مراوغةٍ وتغليبٍ لـ (أرسطو): قد يكون عن إلحادٍ طرأ عليه بعد التشبُّعِ بمنطق (أرسطو)، وعن مُنافَقَتِة الفقهاءَ؛ وقد يكون عن صِدْق قصدٍ ، وأن هذا مُنْتَهَى تقديرِهِ دينَ ربِّه.. وكونُ ابنِ رشد من مقروءات (توماس) شاهدٌ على تثقُّفِ توماس، وتجاوزِه المصادرَ المحليةَ؛ وأما إلزامُه التَبَعِيَّةَ الفكريةَ لابن رشد: فلا يقبل بكلامٍ مجمل، بل لابدَّ من سردِ النماذج من نصوصِهما لإجراء المعادلةِ النقديةِ بعد ملاحظةِ أنَّ كلَّ لقاءٍ لا يكون صادراً بالضرورة عن تَبعِيَّةٍ؛ بل قد يكون تلقائياً؛ لتشابه الظروف بين لاهوتِيّْيَيْنِ فيلسوفين يُقْلِقُهما التعارضُ بين المعرفتين؛ ولعموم الثقافة المشتركة بينهما؛ ولاتحاد العقل الإنساني المشترَك في البدهيات والمبادىءِ الفطرية. قال أبو عبدالرحمن: وههنا نوعٌ ساذَج مِن الْمُقارنة بين (ابن رشد) و(توماس) أدَّى بالدكتورة (زينب) إلى الحكم بأنَّ (الْأُكْوِيْنِيَّ) أخذ كلامَ (ابن رشد) جملةً.. قالت: «العقل والإيمانُ لا يتعارضان أبداً عند (توماس الْأُكْوِيْنِيّ) إذْ كان من الحق أنَّ العقلَ لا يمكنُ أنْ يبرهن على صحةِ الحقيقة الْمُوحِيَّة [تعني الْمُوْحَى بها مِن عند الله سبحانه وتعالى إلى رُسُلِهِ عليهم صواتُ الله وسلامُه وبركاته]: فإنَّه من الحق؛ وبعكسِ ذلك كلُّ استدلالٍ يحاول إثباتَ عكس ما جاء به الإيمانُ ينتهي دائماً إلى سفسطة؛ فهو إذن يتمسَّك بمبدإٍ أساسِيٍّ؛ وهو أنَّ الحقيقةَ لا يمكنها أنْ تنقسم.
قال أبو عبدالرحمن: بل قد يكونُ للحقيقةِ أكْثَرُ مِن وَجْهٍ كالحقِّ والضَّلالِ والباطِلِ؛ فالباطِلُ نقيضُ الحقِّ؛ وهو أيضاً صِفَةٌ للضلالِ؛ لأنَّ الباطل هو ما لَمْ يكنْ أو لا اِعْتدادَ بوجودِه؛ لأنَّ الحق نقيضُه الضلالَ، ولا ثالثَ لهما؛ وذلك يَجْعَلُ الباطِلَ في حُكْمِ المعدوم.. والدلالةُ المجازِيَّةُ سواءٌ أكانت مجازاً أدَبيّْاً في الجملة مِثْلَ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (82) سورة يوسف، أم كانتْ مجازاً لُغَوِيّْاً في المفردَةِ مِثْلَ (العين)، و(اليد)؛ إذْ تكونُ العين بمعنى ما ينبع مِن الأرض من الماء في حين أنَّ الأصل للجارحةِ المبصرةِ، واليد بمعنى النعمةِ والأصلُ فيها للجارِحة: فكل ذلك المجاز هو الحقيقةُ الشرعِيَّةُ؛ وهو الحقيقَةُ في كلامِ كلِّ مُفَكِّرٍ.. ثم قالت زينب: ((ولا يمكن لأجزائها أن تتعارض.. ومما لاشك فيه أنَّ هذا المبدأَ، (مبدأَ وحدة الحقيقة): هو مبدأٌ رشديٌّ تمسك به فيلسوفُ قرطبةَ؛ لحل مشكلة التوفيقِ بين الفلسفة والدين، وليس هناك تشابهٌ شديدٌ بين التعبير عن هذا المبدإِ عند كلٍّ مِن (ابن رشد) و(توماس الْأُكْوِيْنِيُّ)؟.. يقول (ابن رشد)في (فصل المقال): الحقُّ لا يُضَادُّ الحقَّ، ويقول (الْأُكْوِيْنِيُّ) في خلاصته اللاهوتية: يستحيل إثبات ما يُضَادُّ الحقَّ بالبرهان؛ إذن لقد أخذ (الْأُكْوِيْنِيُّ) مفتاحَ حلِّ مشكلةِ العلاقةِ بين الفلسفة والدين من ابن رشد سواء اعترفَ هو بذلك أم لا» [أثر ابن رشد ص 159].
قال أبو عبدالرحمن: لم نحصلْ من مقارنة الدكتورة إلا على مسلَّمةٍ هي من عقيدة كلِّ العقلاء؛ وهي أنَّ الحقائقَ لا تتنافَى.. بل يظهر لي من كلمة توماس المقتضَبَةِ التي نقلتها الدكتورة أنَّ (توماس): لا يذهب إلى أنَّ العقلَ عاجزٌ عن البرهان على صِدق وعدل ومعقولية الشرع بإجمال؛ وإنما هو عاجز عن البرهنة على صحة حقيقةٍ دينيةٍ مغيَّبةٍ معيَّنة؛ والمراد بالصحةِ إثباتُ وجودِها بكيفية وكَمِّية؛ وذلك لنقصِ علمه تفصيلاً، وإيمانِه بالدين إجمالاً؛ ولهذا يستحيل أن ينفيَ برهانُ العقلِ حقيقةَ الشرعِ لنقصِ عِلمِ العقل تفصيلاً.. ولكل ما ذكره (ابن رشد) آنفاً تحقيق وتدقيق في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.