ميسون أبو بكر
لم أتخيل يوماً لبنان بدون رفيق الحريري -رحمه الله-، رحيله بتلك الطريقة الوحشية والإجرامية فجيعة، فهو الرجل الذي ملأ الدنيا، والرجل الذي أعاد إعمار لبنان، والرجل الذي باسمه تقترن التنمية في لبنان ونال الكثير من الشباب حظهم في التعليم وفيّ الوظائف، وفتحت بيوت كان ليشرّد أهلها، وشهدت لبنان حظاً وافراً من العلاقات الجيدة مع جيرانها من الدول العربية والأجنبية، لكن اغتيال الحريري الذي وراءه ما وراءه من مؤامرة دنيئة تآمرت على لبنان وشعبه ونمائه وسياحته واقتصاده.
ًلبنان الذي زرته بعد غياب خمس سنوات لم يختلف فيه شيء إلا أنه بقي على حاله رغم عجلة الزمن التي حركت كل شيء في العالم وبقي هو لم يتبدل فلم تتسع شوارعه الضيّقة ولم ترمم مبانيه، ولم تعالج أزمة السير الخانقة وأزمة الكهرباء، وبقي شبابه يعانون البطالة بخاصة منهم المشتغلون بالسياحة فقد توقف تدفق الخليجيين بالأعداد الرهيبة، حيث كانت لبنان وجهتهم السياحية والشرائية المفضَّلة ولا يخفى القارئ أيضاً أنه كان الوجهة الأولى لطب التجميل.
منذ اللحظة الأولى التي وصلت الطائرة على المدرج الذي يحده البحر من جانبيه بدأ صوت فيروز يملأ المكان كنوتة موسيقية خاصة بلبنان، فيروز مثل النشيد الوطني اللبناني الوحيد الذي يحفظه اللبنانيون والعرب عن ظهر قلب، محلات مناقيش الزيت والزعتر تنبعث منها رائحة الأفران المتقدة منذ الصباح الباكر، والزيت والزعتر والجبن المعد بالطريقة اللبنانية، رطوبة بيروت وجوها الحار صيفاً والذي يحتمله عاشقوها، بحرها الذي ما زال يحتفظ بالمقاهي ذاتها على مداه الواسع والتي تتحول بالليل إلى ساحات طرب وميجنا لشعب امتهن الحياة ويرتدي ملابس الفرح والتفاؤل واضعاً أحزانه في الجهة المهجورة من خزانة ملابسه، متجاهلاً إياها كما يتجاهل آثار الدمار والحرب الماثلة أمامه في كل مكان ووجهة في لبنان.
النافذة في غرفة الفندق الذي أقمت به تطل على مبنى لفندق سابق مهجور بقي على حاله رغم أنه في عَصّب المدينة السياحي، ولم يعاد تأهيله وتشغيله، ربما السبب هو الذي يتذمر منه الكثيرون فلم تعد تشغل إلا عدد قليل من غرف الفنادق مقارنة بماضي لبنان.
الصراعات السياسية اللبنانية تفشل السياحة وتعيق قدوم السياح من الخليج بالذات الذين وحدوا لهم وجهات سياحية هادئة وذات أجواء مناخية جيدة لكنها تخلو من فيروز ومن التفاصيل اللبنانية التي أدمنوها.
لبنان الجبل له حكاية أخرى وعلى كل كتف جبل من الجبال هناك منازل تركها أهلها خاوية من حضورهم إلا القلة التي تتجرأ وتزور لبنان في ظروفها السياسية الراهنة.
لبنان مهنا ومنير وفخر الدين وفينيسيا والنوتة الزرقاء التي أصررت على الذهاب لها وتناول العشاء فيها برفقة كل الفنانين الذين التصقت ذكرياتهم وصورهم على جدار المكان، رغم أن الطريق صعب والشارع مكسر والسائق عجز عن إيجاد موقف قريب للسيارة مما تكبدنا وقتاً وعناءً للوصول للمكان الصغير الأثير في الوقت ذاته.
لبنان ذاكرة تمتزج بسعادة الماضي والقلق على لبنان مما يترصد بها، لبنان قصيدة وموسيقى عابرة لحدودها، ونوافذ تركنا داخل منازلها أشياءنا بانتظار أن تعود لبنان ونعود.
تمثال رفيق الحريري في ساحة (الشهداء) يقف كشاهد على الجريمة النكراء التي ارتكبت بحق لبنان وأهلها ويذكّرنا بفقدنا للبلد الجميل الذي ينتظر أن ترفع الأيادي الآثمة يدها عن العبث بأمنه وعلاقاته مع الدول الشقيقة التي لطالما كانت الحليف القوي للبنان.
عندك بحرية يا ريس، بحبك يا لبنان، احكيلي عن بلدي.. لبنان سعيد عقل ومحمد شمس الدين وخليل الحاوي.. لبنان جبران ونحن سيعود ونعود.