د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الإمام الجليل الشافعي صاحب المذهب المشهور، وشعر الحكمة المأثور، في شعره الكثير من المعاني، وكما يقال: تراكم تجارب البشر، لكن يختلف باختلاف سلوك البشر ونظرتهم إلى الحياة، أو في رغبتهم على ما يرغبون أن تكون عليه، ولهذا فقد نجد في حكمة الشافعي ما نتفق معه فيها أو قد تختلف، ولهذا سيجد البعض شيئا من التناقض فيما حواه شعره من حكم عظيمة، وفي الحكمة يقول:
لا يدرك الحكمة من همه
يكدح في مصلحة الأهل
ولا ينال العلم إلاّ فتى
خال من الأفكار والشغل
لو أن لقمان الحكيم الذي
سارت به الركبان بالفضل
بلي بفقر وعيال لما
فرق بين التين والبقل
هل ما قاله هذ العالم الجليل الحكيم صحياً؟ نحن جميعاً قد نختلف حول ذلك، وفي ظني أن الحكمة يمكن أخذها من الغني والفقير، والكادح المستريح، والذكي والغبي، وحتى المجانين، ولهذا فإن من الحكم السائدة ذلك القول المشهور: خذ الحكمة من أفواه المجانين. فهي إذا تجاذب الناس عبر الأجيال بغض النظر عن جنسهم ولونهم ومكان معيشتهم وزمنه.
والحكمة ضالة المؤمن، والحكيم من اتعظ بغيره، ونجد أن الشافعي قد قال حكمتين فيما يخص الرزق، قد يكون بينهما شيء من التناقض فهو الذي يقول في إحدى قصائده:
ورزقك ليس ينقصه التأني
وليس يزيد في الرزق العناء
وهو في ذات الوقت، وفي موقع آخر من الكتاب يقول في قصيدة أخرى:
بقدر الكد تكتسب المعالي
ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلى من غير كد
أضاع العمر في طلب المحال
أليس ذلك فيه شيء من التناقض، فهو يرى أن الرزق لا يجلبه التأني، كما أن العناد لا يجلبه أيضًا، لهذا فربما يعمد الناس إلى الراحة طالما أن الأمر سيان في الحالتين، بينما نجده في البيتين الآخرين، يربط العلا وكسبها بالكد، وأن من يطلبها من غير كد فإنما يضيع وقته وعمره، ولا شك أن الرزق من المعالي، لأنها ترفع يدك عن الحاجة إلى الناس لا سيما أبواب البخلاء، واللؤماء، وغير المغدرين للناس، والأبلغ أثرًا في النفس، من أملت منه ورأيت فيه تسهيل أمرك، ثم يردك وهو قادر على الأمر، وميسر بين يديه، والأغرب أنك قد تحصل على ما تريد، بطلب رجل آخر قد يأتي به إليك ممن دون ذلك الشخص.
تدبرت قول الشافعي في الرزق، وتذكرت أن اثنين أعرفهما، في مكان بعيد من العالم، أحدهما كان يعمل سائقاً لدي في تلك البلاد آنذاك، والآخر موظفاً عادياً، فذكر لي أن الأول وهو مسلم الديانة، أصبح من رجال المال، فقد مات والدهما وهو الوريث الوحيد لهما، وقد قدرت الدولة منزلهما بمبلغ كبير من المال، وقد استثمر في شراء السيارات وبيعها والمتاجرة بها، كما توسع في بضائع أخرى، حتى أصبح من الأثرياء الذين يقضون عطلاتهم مع زوجته وأولاده، في بقاع الدنيا، فسبحان مغير الأحوال، كما قيل أنه يلبس تعويذة من الذهب الخالص على رقبته خشية العين، ونحن جميعًا نعرف أن لبس الذهب محرم في الإسلام على الرجال في أغلب الأقوال، كما أن لبس التعاويذ محرمًا أيضًا لكنها عادة، وربما أيضًا وهو الأقرب للواقع بتحريم ذلك، وأذكر أنه كان جادًا وفيًا حتى أنه يأتي من منزله الذي يبعد عن منزلي نحو ساعة بالدراجة الهوائية أو السيكل كما تسمى، ودرجة الحرارة تبلغ عشرين تحت الصفر، ولا يتأخر قط، كما أنه يأتي للقيام بعمله في وقته، فسبحان مغير الأحوال، والآخر كان موظفًا عاديًا فذكر أنه أصبح مليونيرًا، فقد كان يدرك ويعمل خلال تلك السنين الخوالي، ثم ما لبث أن أصبح في سوق المال والاستثمار، وترك العمل ويعمل مستشارًا ماليًا لبعض الشركات المحلية والعالمية، بالإضافة إلى استثماراته، وهو دائم التنقل بين بلده وبلدان العالم في الغرب والشرق هذه هي أرزاق الله ييسرها لمن يشاء، وما على المسلم والإنسان بشكل عام إلا العمل والمثابرة أما النتائج فأمرها مربوط بتوفيق الباري عز وجل، فهو المعطي، وهو المانع.
نعود لنقول إن الشافعي في شعره المليء بالحكم، قد يساعد في زرع الهمم، لكنه أيضًا قد يفعل دون ذلك، ويبقى الإنسان هو الإنسان بما جبل عليه، يسير ويسعى ويكد ويسعد ويشقى، ثم يترك الدنيا بما فيها، ثم يجد أمامه ما فعل من خير لنفسه وللناس، والله رؤوف بعباده.