د. محمد بن إبراهيم الملحم
لتتحقق الجودة النوعية للتعليم، وتنعكس بالتالي آثارها على النمو الاقتصادي، هناك أولويات لا بد من استيعابها في البداية، ثم الانطلاق بعد ذلك إلى أية مبادرات أخرى. ومن دون تفكير عميق يمكنك أن تبدأ بالمسلَّمات، وعلى رأسها الأنظمة الإدارية وممارساتها (والأخيرة أهم)، ثم بيئة العمل وإمكانياتها المادية، وأخيرًا تحقيق المبادئ القيادية والإدارية المجمع عليها، وأبرزها سيادة الانضباط، سواء بدوافع قيم المجتمع (الدين، الوطنية.. إلخ)، أو بدوافع قيم العمل التي يغذيها الثواب والعقاب. ومن الخطأ أن يتناول مقال طموح في التفوق النوعي مسلَّمات كهذه، باتت اليوم كالهيموجلوبين في دماء العمل اليومي لدى كثير من الدول والمجتمعات التي بعضها في مستوانا الاقتصادي، وبعضها الآخر أقل منا، ولكنها ضرورة ألجأنا إليها واقعنا الذي نتطلع إلى شفائه من هذه الأمراض المزمنة. وأظن أن التغيير في هذه الجوانب المحورية في أزمتنا الحضارية لا يكون بحلول جزئية هنا أو هناك؛ فكل ذلك جُرِّب، ولكن يكون بحل «شامل». ومشكلة الحلول الشاملة أنها ذات طبيعة تحويلية، ينجم عنها فراغ نسبي، لا بد أن يتحمله النظام الطامح إلى التغيير. كما أنه لا بد أن يكون من نوع تغيير النمط السائد (أو الباراديم Paradigm Shift)؛ إذ يظهر نمط جديد مختلف كليًّا. وينتمي إلى هذا المسار مثلاً التفكير في الخصخصة، ولكنها فكرة لا تنجح دون تغيير في حوكمة النظام المسيطر على أداء الخصخصة، وهو ما لا يعتني به دعاة الخصخصة عندنا، بل يرون فيها حلاً ناجعًا وكفى، ومن هنا لم أؤيدها للتعليم في مقالة سالفة، وأرى أن الأفضل هو تقديم أنموذج جديد لوظيفة المعلم، تنمط في إطار جديد كليًّا، يضمن سلامة التطبيق وحسن الأداء منذ اللحظة الأولى. ليس هذا فحسب، بل لا بد من إعادة صياغة أنظمة الخدمة المدنية والمحاسبية والحوافز والتدرج الوظيفي بما يتجاوز المشكلات الموروثة والمتأصلة. وأخيرًا، وهو أولاً: لا بد من تحويل الطموح والحماس الشخصي لمن يقود التغيير إلى صيغة مؤسساتية، تكفل ديمومة الطاقة، وتحفظ كيان آلة التغيير الجبارة إن وُجدت.
وبعد أن يحدث ذلك سنحتاج إلى مرحلة أخرى، ينطلق فيها التعليم إلى مساحات الإبداع للتأثير المباشر على النمو الاقتصادي. وفي سياق تلك المرحلة إشاراتي الآتية، وعادة يكون الحديث في مكونات التعليم الأساسية: المناهج، المعلم، الوسائل والأدوات، والأنظمة التعليمية، بما فيها نظام التقويم. وسوف أتحدث هنا عن أول اثنين؛ فالمناهج تحتاج إلى الخروج من عباءة المدرسة الشاملة إلى عباءة جديدة، تهتم بالتخصص منذ وقت مبكر، وتعتني بالمهارات في تصميمها وأسلوبها، لا في محتواها فقط. كما يجب أن يتاح للمبدعين أن يحدثوا في مفهوم المدرسة ما يلهم الطلاب، مثل مفهوم الفصل المفتوح، أو اليوم الكامل، أو المدرسة التطبيقية.. وما إلى ذلك. أما المعلم فيجب أن تعاد صياغة إعداده، وتعد برامج دراسات عليا محترمة، تخرِّج أجيالاً من المعلمين قادرة على التناغم مع متطلبات المستقبل، ومتمكنة تربويًّا وعلميًّا بما يتجاوز ما نراه اليوم من مستويات فقيرة بائسة في قدرات المعلمين ومعارفهم. وباختصار، تغيب صورة المعلم الضعيف علميًّا ذي الخط الممتلئ بالأخطاء الإملائية على السبورة، والفاشل تربويًّا في التماهي مع طلابه وتصوراتهم عن الحياة وأنفسهم والمعرفة التي يدرسونها. وكل هذا يجب أن تضمن جامعاتنا كلها تقديمه بنفس القوة والجودة، بما يضمن حصول جميع طلاب المملكة على فرص متساوية في الجودة النوعية لمعلميهم. ولا بد للجامعات أن تخلع عباءتها البالية التي خرجت منها مئات المعلمين غير المتمكنين في العلوم والأدب.. وها هم معلمون فاشلون في تقديم المعرفة الصحيحة وبالأسلوب المعتبر، فضلاً عن أن يبدعوا ويستخرجوا كنوز أبنائنا الطلاب الثمينة. إن المسؤول الأول ليس وزارة «التعليم»، بل هو جامعاتنا الموقرة التي ارتضت أن تسير في منحدر الشكليات والإحصاءات البراقة بأعداد الخريجين وقلة المتعثرين؛ فتراجع مستوى المناهج والأساتذة، وتردت المخرجات. وزارات التربية في العالم تدير الشأن الإداري وللمدارس واحتياجاتها.. لكن ليس من واجبها أن تحسن مستوى معلمين، حصلوا على الشهادة بدرجة تنقلهم من «غير مؤهل» إلى درجة «مؤهل». دورها في التدريب إثرائي وارتقائي؛ لذا لا يمكن توجيه اللوم لها على ضعف مخرجات الجامعات من المعلمين. نعم، ربما نلومها على توظيف من لا يستحق، لكن المشكلة الاجتماعية التي تواجه الوزارة جعلتها تتحمل إهمال الجامعات وضعف مخرجاتها، وتوظف هؤلاء المواطنين؛ لعلمانة الوظيفة تحملهم على تحسين مستواهم، وهو ما يحدث لقلة منهم، لكن لا تزال فئات كبيرة يراوحون في المستوى نفسه. والمتهم هو من أعطاهم تذكرة دخول في سوق العمل محرجًا أكبر جهة لهذه السوق.