د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** تستطيع الذاكرة الوهمية أو الكاذبة تغيير مسار الإنسان الحياتي حين تستوطن ذهنَه حكايةٌ لا وجود لها فينسج لها مقدمةً ومتنًا وأحداثًا وخاتمة، وهي ظاهرة لا تبدو على السطح؛ فقلّة من البشر يعرفون أو يعترفون بأوهامهم، ويُعتقد أنّ عشرين في المئة من الناس يحتفظون في ذواكرهم بقصصٍ لم تحدث، وتبرز كثيرًا مع الصبية الصغار لاتساع أخيلتهم، وينبه التربويون الآباء والأمهات كي يبحثوا أسبابَ ادعاءِ أولادهم حكاياتٍ لا أساس لها، ويعللون سلوكهم بأنّ فيه سعيًا للفت نظر الوالدين من جانب، ولصرفهما عن خلافاتٍ بينهما يعاني النشءُ من انعكاساتها على مشاعرهم، فلا يجدون ما يلتقي الأبوان حوله سوى اختراع واقعة لم تحدث أو حدثت بشكل مختلف، ونسج رواية ملفتة يَبني عليها الأبوان محكمةً ويصدران أحكاماً.
** الذاكرة الوهمية لا تقف عند الصغار، ولو كانت كذلك لهان أمر تلمُّس دوافعها وأساليب علاجها لكنها امتدت نحو الكبار فنالت من صفو علاقاتهم وأسهمت في توجس بعضٍ من بعض، وربما نأى بعضٌ عن بعض كي لا يقع أيٌ منهم في متاهة ذاكرة خاطئةٍ تعتمر أخيلةً فاصلةً وربما مفسدةً للود.
** قضايا السلوك الفردي غيرُ قابلة للتعميم، ولكل حالةٍ وضعُها، وتتكاثر في الأوساط غير المستقرة نفسيًا أو اجتماعيًا، وربما جازت دراستها وفقًا لإضاءات العلم حول «الغدة الصنوبرية» و»العين الثالثة»، وهو ما قد يحيل السلبَ إلى إيجاب والظنون إلى حدس، وتَستبدل بتوهُّم الماضي قراءةَ الآتي حتى تبلغ التصديق الواعي حين تزول المؤثرات الموحية بأهمية جذب الانتباه واختلاق مشاهد سمعية وبصرية سرابية يطمسها التجاهل أو العلاج.
(2)
** تنقلنا هذه التوطئة نحو الذاكرة الثقافية الوهمية التي تتبنى حكاياتٍ ومواقفَ وصورًا وتصر على تمثلها والإيمان بها وتقرير قواعد ثابتة بشأنها، وربما كان التأريخُ المجالَ الأرحب لها حين تتصدر رواياتٌ غيرُ محققةٍ فيرتكز عليها الدارسون ويتوارثون إسقاطاتها، وربما كان ناشرها أو مرددها غيرَ موثوق به أو ذا هدفٍ ملتبس، وما الظن أننا ناؤون عن مغالطات المؤرخين القدامى والجُدد، ولصاحبكم دراسة - سبق نشرها - ضربت أمثلةً من أوهامهم، وقد يستحيل محوُها لتجذر الاقتناع بصدقيتها.
** وكما التأريخ الحكائي يجيءُ الشخوص بحصاناتٍ تُطيح بما رُوي عنهم أو أُلف فيهم أو تواتر حولهم؛ فيبدو الليبراليُّ دكتاتورًا والمتسامحُ متشددًا والعالم متعالمًا والصدوق كذوبًا، وبالمثل نقرأُ إشاراتٍ فكريةً تكوَّنت لها عبر المدى مهابةٌ تقترب من القدسية ثم أسفر الصبح لمن له عينان، فإذا هي تركيمٌ للوهم المعرفي الذي لم يُهل عليه التراب بعد وربما لن يُهال، وفي المدارات الإعلامية صورٌ لا تستحق أُطرَها وأعمدةٌ لا ظلال لها.
** الذاكرة الوهمية تخترق أنسجتنا الجينية وأبنيتنا المجتمعية وتصنعُ شكوكًا ما تلبث أن تتحولَ إلى نظريات وتستقطبَ منظرين، وفي المقابل فإنه واهمٌ من يحسب كل أمرٍ وهماً.
(3)
** الذاكرةُ أفقٌ ونفق.