د. فوزية البكر
ركبنا الطائرة المقلعة من الرياض وعلى متنها (كما تخيلت) كل أطفال الرياض بحركتهم الدائبة، وعدم احترام الكثير منهم للأنظمة وعدم قدرة الأبوين على إعطاء تعليمات حاسمة... الخ.
وجاء موعد الإقلاع الذي أجبر الجميع على الجلوس في مقاعدهم وإطفاء كافة الأجهزة الإلكترونية (في حوزتكم)، وفجأة وصلنا حنين الطفلة (المعذبة) في المقعد الأمامي تردد في نوبة بكاء عنيفة: يمه أبي جوالك، يمه أبي جوالك (والذي فيما يبدو كان مستخدما لإشغال الطفلة عما حولها وحين خطفت الأم منها "الرضاعة: التلفون!") أفاقت للعالم تبحث عن سيجارتها : التلفون الذكي.
في إحصائية غير رسمية اتضح ان المتوسط العام لنا لتقليب محتوى جوالاتنا والنظر فيها يتراوح بين مائتين وخمسين إلى ثلاثمائة مرة في اليوم الواحد!.
وفي ورقة هامة نشرتها الأخصائية النفسية جين تي تونيج 3 أغسطس 2017 في (ذا اتلانتك) وحاولت من خلالها جمع المقارنات بين الأجيال المختلفة في الولايات المتحدة منذ ما كان يعرف بعصر (البيبي بوم في الستينات)، ثم تلاهم (الملينيم: من 1995 - 2012) ثم الجيل ما بعدهم والذي شهد أفراده ارتفاعا لا مثيل له من حيث امتلاكهم للتلفونات الذكية.
ما يميز الباحثة وهذه الدراسة قدرتها على الحصول على بيانات كاملة عن كل ما يخص كل جيل في الولايات المتحدة منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن، وذلك لوجود مراكز وطنية تجمع المعلومات حول كل شيء وهو الأمر الذي نفتقده هنا، حيث لا توجد مراكز وطنية للدراسات الوطنية الكبيرة ومن ثم لا يتمكن الباحثون ومحللو المعلومات والبيانات من إجراء دراسات لأغراض المقارنة وبناء الاستراتيجيات لاحقا.
في الدراسة المذكورة أعلاه وجدت الباحثة فروقات كبيرة جدا في نظرة الجيل الجديد إلى العالم وكيف يقضي وقته والخبرات اليومية التي يحصلون عليها والتي تختلف بشكل كلي عن الأجيال التي سبقتهم، ويكفي انهم لا يتذكرون عالماً من غير إنترنت رغم ان جيل الملينيم ممن سبقهم عرف دخول الإنترنت لكن لم تكن الهواتف الذكية حاضرة في أيديهم وفي كل لحظة من حياتهم كما هي مع الجيل الحالي، مما أثر على طرق تفاعلهم الاجتماعية وعلى حالتهم العقلية والانفعالية وكانت هذه الظواهر كما وجدت الباحثة عامة بين كل الطبقات وبين كل الاقليات وفي المدن والأرياف التي تشكل سكان الولايات المتحدة.
من البيانات المتوفرة وجدت الباحثة ان جيل التلفونات الذكية تهدده مخاطر الاكتئاب والميل للانتحار بشكل لم تعرفه البشرية من قبل، كما أوضحت البيانات انهم يتعرضون بشكل كبير للكثير من الأمراض النفسية والعقلية التي تجعلهم أقل سعادة ممن سبقهم رغم انهم أقل ممن سبقهم من أجيال في التعرض لمشكلات المراهقة (تدخين أو حوادث سيارات)، لانهم ببساطة أقل خروجا من المنزل ويفضلون الصحبة الإلكترونية على الصحبة الفعلية. وحتى لو وجدوا في مكان اجتماعي (زواج أو عزيمة) ستجد الجميع وقد طأطأ برأسه مقلبا تلفونه الذكي ! وهو ما جعل جيل التلفون الذكي ابعد عن عائلاتهم من ذي قبل، ومع مزيد من الانغماس في أنشطة الشاشات الذكية تزيد غربتهم ويقل شعورهم بالانتماء لما حولهم من بشر وذكريات.
وفي دراسة أخرى وجد ان من يقضي عشر ساعات أسبوعيا على الأجهزة الذكية هو الأكثر قابلية للسقوط في الاكتئاب، فكيف إذن بأطفالنا ومراهقينا ورجالنا ونسائنا الذين نقلوا التلفون من كونه كمبيوترا مصغرا إلى وسيلة إشباع لنوبات الهياط الاجتماعي والمباهة عبر الانستجرام والسناب شت التي يقضون عليها ساعات وساعات، رغم ان الدراسة أظهرت أن أي مراهق يزيد استخدامه للأجهزة الذكية عن ثلاث ساعات في اليوم ترتفع لديه القابلية للانتحار بنسبة 35 في المئة.
سؤالي لكم قرائي الأعزاء : أين تضعون تلفوناتكم عند النوم ؟ سنكتشف أننا نضعه في مكان سهل يمكننا من الوصول إليه في أي وقت، وهو الأمر الذي لاحظ الباحثون أنه يتداخل مع ساعات النوم التي نحتاجها فالقلق بشأن المحادثات أو الرغبة في رؤية التعليقات على ما وضعه المراهق والاعجابات كلها عوامل تسحب من أبناء هذا الجيل ساعات من النوم الذي تحتاجه أجسادهم في هذه المرحلة.
هل من المنطقي ان نرغم صغارنا ومراهقينا في هذا العصر بسحب تلفوناتهم ؟ أم نساعد على أن تكون مثل هذه الدراسات المتقدمة متاحة لهم ولأهاليهم للاطلاع عليها فربما يظهر لديهم بعض أشكال القناعة بخطر هذه الأجهزة فيبادرون بتقليل استخدامها.
الأم بلا شك تلعب دورا هاما في تقنين استخدام الصغار دون الثانية عشرة لهذه الأجهزة، وعليها ان تكون قوية في وجه مد كبير يبحث عن راحته أولا فيعطي تلفونه الذكي لطفل لم يتجاوز الأشهر ليبدأ رحلة الإدمان الالكتروني.