محمدالمهنا أبا الخيل
رُوي في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء». وفي دراسة استطلاعية، قام بها باحثون بإشراف البروفيسور (حسين أسكاري) في جامعة (جورج واشنطن)، لمعرفة أكثر دول العالم التزامًا بمبادئ الإسلام، تبيَّن من خلالها أن كثيرًا من الدول الإسلامية التي تعتمد الشريعة الإسلامية في شرائعها ونظمها وتعاملاتها أتت في الترتيب دون كثير من الدول غير الإسلامية. وقد وضع الاستطلاع (113) مبدأ إسلاميًّا مستمدًّا من القرآن والسنة في التعاملات الاجتماعية والحقوقية والاقتصادية والسياسية، وذلك من خلال دراسة دساتير وقوانين وممارسات (218) دولة في العالم. الدراسة صادمة في نتائجها، وربما تتحول لمعيار عالمي حول الالتزام العالمي بمكارم الأخلاق.
قد يتفق أو يختلف الناس في قبول مصداقية البحث الذي قام به باحثو جامعة (جورج واشنطن), ولكن هذا البحث يثير تساؤلاً حول تفسير حديث (الغرباء)، فهل غربة الإسلام التي وردت في الحديث الشريف غربة أخلاقية أم هي غربة شعائرية؟ المسيحية - على سبيل المثال - تعيش حالة غربة شعائرية، فقليل جدًّا من المسيحيين ملتزمون بشعائرها، وقليل جدًّا منهم يرتادون الكنائس ودور العبادة، ولكن الإسلام مزدهر شعائريًّا، والمسلمون تغص بهم المساجد، ويُبنى كل يوم أكثر من مسجد في مكان ما من العالم، وتتسع دائرة الدراسات والشريعة الإسلامية في أكاديميات العالم، وتزداد نسبة طالبي العلم الديني بين المسلمين؛ لذا نستطيع أن نقول إن غربة الإسلام في عصرنا الحالي ليست غربة شعائرية.. فهل هي غربة أخلاقية؟
عندما ينتشر في مجتمع ما فساد الذمة، وتصبح المظلمة إحدى مظاهر التسلط، وينتشر التدليس والغش والاستئثار والاستغلال والاحتكار، ويتضاءل التسامح والتعاون والعدالة والمساواة والمسؤولية الجماعية.. عندها نقول إن هذا المجتمع بات في غربة أخلاقية، وهي غربة لا تليق بالمسلمين الذين قال نبيهم - صلى الله عليه وسلم -: «بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». فمتى تخلى المسلم عن الأخلاق التي تمثل روح الإسلام فقد تخلى عن شيء من مكارم الأخلاق الإسلامية كما بُعث بها محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأصبح مسلمًا شعائريًّا فقط، أي (مسلمًا بالمظهر، وخاليًا منه في الجوهر). وقد يتعلل بعض المسلمين بأن الواقع الذي تفرضه الحكومات الجائرة هو ما يدفع كثيرًا من المسلمين للتخلي عن بعض أخلاقيات التعامل الإسلامي الصحيحة، ويجبر المسلم على نهج يحقق له مكاسب الحياة ضمن الالتزام الأدنى بما يقتضيه الإيمان.
يقول الله تعالى في محكم كتابة: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}. وفي سياق شرح ذلك قيل: «كما تكونوا يُولَّى عليكم». فأرباب الحكم في كل الشعوب هم بعضهم، يمتثلون بأخلاقهم، ويحكمونهم بها. فالالتزام بأخلاق الإسلام يجب أن يبدأ من الفرد، ثم يؤثر فيمن حوله، وهكذا ينتشر الامتثال حتى يصبح سمة المجتمع. ولا شك أن تأثير الفرد الذي يبدأ أو يُظهر الالتزام الأخلاقي يعتمد على دور ذلك الفرد في المجتمع. فالفقيه أكثر تأثيرًا من غير الفقيه، وذو الجاه والسلطان أقدر على التأثير ممن سواهما.. وهكذا تتفاوت القدرة في القدوة. وفي الحد الأدنى ينظر الابن إلى سلوك أبيه، والبنت إلى سلوك أمها. ولا يُغفل دور التوجيه والتربية والتعليم التي يحصل عليها الفرد من مؤسسات التعليم، والتأثير من خلال منابر المساجد ووسائل الإعلام والتعامل اليومي بين الناس.. فكما تقول القاعدة في علم النفس (التعامل مُعدٍ)؛ إذ يميل الناس لتقليد السائد في المظهر والسلوك.
غُربة الإسلام اليوم ليست غربة ظهور وانتشار؛ فالإسلام اليوم هو أكثر الأديان انتشارًا في العالم، ولكنها غربة في النفوس، ووحشة في الأوطان؛ فالإسلام دين معاملة وعبادة، لا يستقيم أي منهما دون استقامة الأخرى. والمسلمون اليوم هم أكثر الشعوب حاجة للامتثال بأخلاق الإسلام؛ فهي السبيل للتقدم والرقي والحضارة؛ فأمم العالم المتقدم لم تتقدم بالعلم والصناعة فقط، بل تقدمت بالأخلاق والانضباط وسيادة القانون والمساواة في التعامل.