د. حسن بن فهد الهويمل
من فضل الله عَلَيَّ، وأفضالهُ كثيرة:- {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. التقاء هواياتي، ومهماتي الوظيفية على أمر قد قدر.
في [نادي القصيم الأدبي]، قَضيت برئاسته نحو ثلاثة عقود. كنت محفوفًا بـ[الحرف] من كل جانب، وعلى كل مستوياته، واتجاهاته.
وفي التعليم: العام، والجامعي. قضيت شبابي، وكهولتي، وبوادر شيخوختي، على مدى ستة عقود. ولما أزل [أستاذًا غير متفرغ] مع طلابي البررة في قسم الأدب.
وفي مكتبتي المنزلية التي تزداد يومًا بعد يوم، وتحوي كل أنواع المعارف، ومتناقضات الأفكار، والمفاهيم.
والرسائل العلمية التي أشرفت عليها، أو ناقشتها. والتحكيم في أرقى المؤسسات. كل ذلك يربطني بفيوض المعارف.
وحين تكون حالتي كذلك مع أجواء الثقافة، تتيح لي فرصة التَّعرف على أحوال [الكتبة] بمختلف أصنافهم: الجادين، والهازلين. الصادقين، والكاذبين. العارفين، والأدعياء.
المشهد الثقافي، والإعلامي كأي تجمع بشري، خليط من الأجناس. ولما كان [الصراع] إكسير الحياة، هُيِّئت له المتناقضات، ليظل عامرًا بالضجيج. ولست مع الحكمة القائلة:- [البقاء للأصلح]. كما ترى [نظرية النشوء، والارتقاء].
البقاء عندي للأقوى، وإن كان بقاءً لا يطول، ولا يَسُرَّ.
فـ[أمريكا] هي الأقوى، ولكنها ليست بالضرورة هي الأصلح. ومن قبلها [بريطانيا]، وكل دول الاستعمار، والاستكبار، والاستبداد.
ولا ندري من المؤهل للسيطرة على العالم، بعد أن تستكمل الحياةُ دورتها، وتتدخل سُنَّةُ التداول:- {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. فالدول الظالمة غير منصورة إسلامية كانت، أو غير إسلامية. ومنصورة، وإن لم تكن إسلامية.
[الكتبة] جزء من منظومة الحياة، بكل تحولاتها، وتناقضاتها. فهم يرسمون بالكلمات صورها المتعددة، ويحكون بالمقالات أحوالها المتنوعة. و[كلٌ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له]. وما من أحد خُلِق كما يريد:ـ [مَا بِأَيْدِينَا خُلِقْنَا تُعَسَاءْ] وإنما هو التوفيق. فمن صُنِعَ على عين الله حقق مشيئته:-
[كأنكَ قدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ].
تيك الإمكانيات الاستثنائية، جعلتني أنَقِّبُ في دنيا [الكتبة]، وأتحسس عن اتجاهات ما سبق من مقالات، بل أعيد طبع بعض المجلات المهمة كـ[الرسالة]، و[أبللو]، و[المنار] وغيرها.
فـ[الرافعي] و[الزيات]، و[المازني]، و[العقاد]، و[طه حسين]، و[محمود شاكر]، وعشرات من عمالقة العصر، جَمعوا مقالاتهم، أو جُمعت من بعدهم في عشرات الكتب، مثل [وحي الرسالة]، و[النظرات]، و[وحي القلم] و[حصاد الهشيم]، و[حديث الأربعاء] وغيرها.
كل ذلك مكن المتابع النهم من رصد الأحوال، والهموم، والموضوعات التي تشغل الفترات السابقة، واللاحقة، فلكل زمان همومه، وقضاياه.
والدارسون لظاهرة [المقالة] وقفوا، واستوقفوا، وذكروا الظواهر السياسية، والاجتماعية، والفكرية التي تشغل كل مرحلة. فالسابقون شُغِلوا [بالاستقلال]، و[الخلافة]، و[الدستور]. ومن دونهم شغلوا بـ[قضايا المرأة] و[الحرية]، و[الهوية].
ومن خلال تلك المجاميع، وتيك الدراسات تتقاسم [الخِراشيةُ]، و[البراقِشيةُ]، و[الجُندبيةُ] مواقفهم. فما هي تلك الظواهر؟
أما [الخراشية] فتمثل كثرة القضايا، وتزاحمها في الأفكار:-
[تَكَاثَرتِ الضِّبَاءُ عَلَى خِراشٍ
فَمَا يَدْرِي خِرَاشٌ مَا يَصِيدُ]
وأما [البراقشية] فتمثل جناية [الكُتَّاب] على عشيرتهم الأقربين، كما يحكي المثل العربي:- [عَلَى أَهْلِهَا جَنَتْ بَرَاقِشٌ].
وأما [الجُنْدُبِيَّةُ] فالكاتب كما الجندي المجهول في مفارز [الصاعقة] أو [الطوارئ]، أو [الميليشيا]، أو [المارنز]، مفارز جاهز للمفاجآت، ومُعَدَّة للمباغتة. وغيرهم بنعمون بدفء الراحة، والأمان:-
[وإذَا تَكُونُ كَرِيْهةٌ أُدْعَى لَهَا
وإِذَا يُحَاسُ الحِيسُ يُدْعَى جُنْدُبُ]
فهم غير [جُنْدُب] المنعم. إن أقلامهم بين أصابعهم، مثلما أن أصبع الجندي على زناده. ذلك قدرهم. وتلك مهمتهم. والصادق المخلص الصابر المحتسب له أجر المرابط في سبيل الله.
إذ كلما أطل قرن الفتن هَبُّوا، أو كُلِّفوا للتصدي، والتحدي، والصمود. فـ[الحرب الباردة] لا تختلف عن الحرب الساخنة. فإذا كان الجندي يحمل بندقيته فإن الكاتب يحمل قلمه. وجراح اللسان لا تقل عن جراح السنان.
و[الكتبة] كتائبُ تواجه بَعْضها، وإن كانَتْ من قومية واحدة. تتفق حينا، وتختلف في أحيان كثيرة.
ومن ثم يمثلون تلك السمات [الخِراشية]، و[البراقشية]، و[الجندبية].
والعربي بطبعه عاطفي:ـ
[وأَحْياناً عَلَى بَكْرٍ أَخِيْنَا
إِذَا مَا لَمْ نَجِدْ إلا آخَانَا].
فالاعتداء حتم على الأجنبي، أو على ابن العم. والعاطفة هوجاء في إقدامها، وفي إحجامها
[إِذَا احْتَرَبَتْ يَوْماً فَسَالَتْ دمَاؤُها
تَذَكَّرتِ القُربَى فَسَالَتْ دُمُوعُها]
[الكتبة] على اختلاف مستوياتهم، واتجاهاتهم، يكتبون تاريخ مرحلتهم، بوصف ما يكتبونه صدى الأحداث، بمختلف آثارها، وانتماءاتها. وهم في الوقت نفسه يكشفون عن ذواتهم، ومضمراتهم على شاكلة:ـ [ تكلم حتى أراك].
فكم من رجل قميء، تتقحمه العيون، إذا تكلم بدا سداً هصوراً. وكم من [أَشْعَثَ أَغْبَر، مَدْفُوعٍ بالأبْوابِ، لو أَقْسمَ على الله لأ بَرَّه].
لا أحد يستطيع التزكية المطلقة لِلْكُتَّاب، فهم أوزاع تتقاسمهم انتماءات، ونوازع، قد تضربهم، وبقضاياهم، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
إن منهم [البراقشيين] الذين يَجْنُون على أمتهم بتصديق الإطلاقات المغرضة، وبخاصة حين يخوضون دوامة [الإرهاب] الملصق زورا، وبهتانا بالإسلام، وحينا بـ[المملكة]، وبدعوتها الإصلاحية، وبمؤسساتها الدينية. وما هو في حقيقة الأمر إلا دعوى باطلة، يبرر بها المعتدون اعتداءاتهم الغاشمة.
نعم هناك [إرهاب]، ولكنه ظاهرة، لا وطن له، ولا دين. وشعار الإسلام الذي يرفعه العملاء، ويصدقه الأغبياء حيلة ذكية
و[المملكة العربية السعودية] هي الأكثر تَضَرُّراً، والأكثر مطاردة لفلول الإرهاب، يتكاثر شانئوها، ومتهموها.
والخطورة ليست في افتراء الكذب، ولكنها في تصديق التبعيين من أبنائها لما يشاع، واجترار فيوض الافتراءات كتحميل الدعوة [السلفية] جرائره.
والأعداء الراصدون [المؤَرشِفُون] يثبطون عزمات [المملكة] من أفواه البراقشيين من أبنائها العققة.
بعض [الكتاب]، والمغردين: المعروفين، والمتقنعين المجندين، والمغفلين، يحملون أوزارًا مع أوزارهم. وبخاصة حين تكون لديهم القابلية لترويج مشاريع الفكر الغربي التقسيمي، والتصعيدي للعداوة، والبغضاء على أسس طائفية، أو عرقية، أو [اثنية]. والانقسامات الثقافية داخل المنظومة الواحدة شاهد أهل.
ومما يعزز هذه القابلية تفعيل عوامل متعددة تؤز الخلاف، كالعامل السياسي، والاجتماعي، والديني، والاقتصادي، والقبلي، والطبقي. وكلها خمائر لتناسل [الكتبة] [البراقشيين].
يتبع...