د. جاسر الحربش
تعرَّضتُ في الحلقة السابقة لثلاث نقاط، وأستمر اليوم في النقاط الآتية:
النقطة الرابعة في الورقة: العرب دخلوا الدولة الوطنية حديثًا، وكانت أسباب قيام الدولة الوطنية إما الخصوصية القطرية التاريخية (مصر)، أو نتيجة لحركة توحيدية لكيانات مفتتة (السعودية)، أو نتيجة لصناعة استعمارية كناتج للتفتيت والتقاسم.
التعليق: هذا الزعم ليس صحيحًا بالمطلق الشامل عبر التاريخ العربي القديم. نعرف أنه إلى جانب الدولة العباسية في المشرق وجدت الدولة الأموية في المغرب والأندلس، بينما كانت الجزيرة العربية آنذاك في طي النسيان بما في ذلك اليمن. كذلك سلطنة عمان لها تاريخ طويل كدولة وطنية بكل المقاييس، وبامتدادها في الجنوب الشرقي من إفريقيا. الصحيح أن الدولة الوطنية بمفهومها الحديث الضامن قانونيًّا للتعايش الديني والمذهبي والعرقي لم تكن موجودة بالفعل، بل كانت هناك نزاعات مستمرة، أدت في النهاية إلى الإنهاك المتبادل والاستعمار. الدول القطرية الأوروبية مرت بالظروف نفسها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت كوارثها هي التي صححت مبدأ السيادة الكاملة لكل دولة وحقها في التكامل مع المعسكر الذي تريد التكامل معه. بناء على ذلك أتوقع أن كاتب الورقة قصد انتهاء سيطرة فكرة الدولة الأيديولوجية؛ لأن ذلك هو الصحيح. وعلينا تذكر أن المحاولة الأيديولوجية الأخيرة انتهت بانهيار المعسكر الاشتراكي، وتفتيت كياناته.
نعم، هكذا كانت النشأة في منتصف القرن الثامن عشر بتزاوج المجهودين؛ بهدف توحيد الأشلاء المتقاتلة في كيان واحد. ولم تكن هناك أيديولوجيا في ذلك الزمن غير العمل على مهمة التصحيح العقائدي.
النقطة الخامسة: استمرار الدولة السعودية ارتكز على القوة زائد الإنجاز زائد الرمز الوحدوي المتمثل في العائلة المالكة.
التعليق: أعتقد أن هذه النقطة هي محور الارتكاز في ورقة المستشار القحطاني؛ لأن غياب القوة والإنجاز والرمز يؤدي إلى تفكيك الكيان بمنطق الاستغناء عنه والبحث عن البديل الأفضل والأقوى. هنا يجب أن نتذكر أن أكبر التحديات لأي دولة وطنية هو ذلك الذي يأتي من داخلها؛ لأنها تفرق الناس وتفتنهم وتفتتهم شيعًا وأحزابًا متقاتلة، بينما التحديات القادمة من خارج الدولة تجمع وتحشد. مثال الدولة السعودية الثالثة بالذات يوضح أن التغلب على الأيديولوجيات الداخلية كان أهم وأصعب من مراحل التأسيس.
مع ذلك يجب ألا نتوقف مع الورقة عند تحقق الشروط الثلاثة المذكورة أعلاه كلوازم لاستمرار الدولة الوطنية. المفهوم الحديث للدولة الوطنية يشمل أيضًا المرونة في فهم الإضافات الزمنية المتوجبة على الدولة الوطنية في فهم الحقوق والعدالة الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني الرقابية وحريات الرأي المضمونة بالقانون والأحكام المدونة. أتوقع صادقًا أن الظرف الزمني يضغط الآن بشدة وإلحاح على كل الدول الوطنية العربية في حيثيات هذه الوقائع بالذات. أحداث الربيع العربي لم تكن لتحصل ولم يكن التلاعب الأجنبي بها ممكنًا لو كانت الدولة الوطنية العربية سبقت الأحداث في تحقيق مطالب تلك الأحداث.
إلى اللقاء في التكملات القادمة.