د.عبد الرحمن الحبيب
رغم المقولة المشهورة للزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني (ت 1979): "لا يوجد للأكراد أصدقاء حقيقيون"؛ إلا أن حكومة كردستان العراق حافظت على علاقات صداقة مع جيرانها الإقليميين فضلاُ عن علاقة متينة مع أمريكا، لكنها علاقات مشروطة بعدم استقلال الإقليم الكردي!
إنما سيجري في 25 سبتمبر المقبل استفتاء على استقلال كردستان العراق حسب قرار القيادة الكردية. إضافة لذلك فإن محاربة تنظيم داعش التي أبقت على تقاطع مصالح بين حكومة كردستان العراق من جهة وإيران وتركيا من جهة أخرى شارفت على الانتهاء بقرب طرد داعش.
دول الجوار والعالم كله أمام مواجهة الحقيقة إزاء المسألة الكردية التي طال أمدها.. وهذا الاستفتاء المزمع إجراؤه نال ردود فعل مختلفة. فالحكومة المركزية بقيادة حيدر العبادي عبرت عن تفهمها لحق الأكراد بتقرير مصيرهم لكنها تعترض على آليات التصويت مثل تحديد المناطق، وعلى التوقيت باعتباره غير مناسب. وكذلك أمريكا التي ألمحت لاحتمال ربط مساعدتها لحكومة كردستان ببقائه في عراق موحد. أما تركيا فقد اعتبرت الاستفتاء قراراً خاطئاً، لكنها أكدت أنها لن تمارس أية ضغوط أو عقوبات وأعلنت أن علاقاتها التجارية ستستمر مع الإقليم الكردي.
إذن، كافة الردود المتحفظة على الاستفتاء كانت مرنة، ما عدا رد الفعل الإيراني الذي كان متوتراً بحدة، إذ كررت القيادات الإيرانية امتعاضها من قرار الاستفتاء، فيما أعرب خامنئي علانية عن اعتراضه عليه خلال اجتماعه مع رئيس الوزراء العراقي العبادي في طهران، ومشدداً على عدم استقلال كردستان العراق.
ما الذي يجعل السلطات الإيرانية أشد اعتراضاً من تركيا؟ هناك سببان رئيسيان. الأول أن طهران تعتبر أن نتيجة التصويت (وهي مؤكدة سلفاً بنعم) تشكل مقدمة نحو استقلال الإقليم الكردي مما يشكل تهديداً لوحدتها ولاستقرارها الداخلي. فالأكراد في إيران، وهم أقلية كبيرة، لا يحظون بأي هامش للتعبير عن طموحاتهم كما يحظى أقرانهم في تركيا، بل يعانون من تجاهل مطالبهم الحقوقية حيناً والردّ بقسوة عليها حيناً آخر.
السبب الثاني هو أن استقلال الإقليم الكردي يشكل تحدياً لطموحات إيران الإقليمية. يرى زمكان سليم (أستاذ العلاقات الدولية بجامعة السليمانية) أن طهران تعتقد أنّ الاستقلال الكردي سيؤدي لتفكك العراق على أُسسٍ عرقية طائفية: دولة سنية عربية مركزية، دولة كردية بالشمال، ودولة شيعية عربية بالجنوب. طهران تعتبر قيام دولة سنية عربية في وسط العراق كارثة استراتيجية، إذ يُرجح أن توطد علاقتها مع السعودية مما قد يدمر ممرّها البري، الذي أنشأته في السنوات الأربع الماضية الذي يربطها بوكلائها الإقليميين في سوريا ولبنان عبر الأراضي العراقية.
في المقابل فإن لتركيا تحالفا قويا مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني" الذي يسيطر على حكومة كردستان العراق، ولدى أنقرة نفوذ كبير على الإقليم، بينما إيران متحالفة مع "الاتحاد الوطني الكردستاني" المفكك والمنقسم على نفسه، إضافة إلى أنه سيمضي مع تيار الاستقلال الكردي. كذلك فإن لأمريكا علاقة وثيقة مع الأكراد العراقيين مما يمثل قلقاً مزعجاً للإيرانيين خشية استخدام أمريكا نفوذها في كردستان العراق كقاعدة لإضعاف نفوذ إيران الإقليمي إن لم يكن كمنصة انطلاق لتغيير النظام في طهران. كل ذلك يعني أن جميع الدول المجاورة قد تربح أو لا تخسر من استقلال كردستان العراق، ما عدا إيران. لذا، قد تلجأ إيران لتحريك وكلائها من المليشيات ضد قوات البشمركة لاستمرار فرض سيطرتها على العراق.
لكن الاستقلال الكامل لكردستان العراق غير وارد على المدى القريب رغم أنه الهدف النهائي بعيد الأمد للأكراد من الاستفتاء. إذ سبق أن صوتت غالبية ساحقة (98%) على الاستقلال عام 2005، وأدى ذلك إلى مجرد مزيد من الصلاحيات لحكومة كردستان العراق. لذا يُنظر لنتيجة الاستفتاء القادم، والذي يتوقع أن يكون في حدود 80% بنعم، على أنه يهدف للحصول على مزيد من التنازلات من الحكومة المركزية وليس للاستقلال التام، فلا الظروف الداخلية للإقليم مهيأة، ولا الظروف الإقليمية مناسبة، ولا الرأي العام الدولي متوافق على ذلك على الأقل من ناحية التوقيت.
كما أن أغلب أطروحات القيادات الكردية حول ما بعد الاستفتاء تتمحور حول اضطرار الحكومة المركزية لتقديم تنازلات واحترام الدستور العراقي بمنح الحكم الذاتي الفعلي للأكراد. وكانت أكبر إعاقة واجهت الحكم الذاتي للأكراد هي تعنت رئيس الحكومة السابق نوري المالكي المتحالف مع إيران الذي تعتبره حكومة كردستان مصدر مشاكلها الأول في استقلالها، بينما ينظر الأكراد الآن إيجابياً لرئيس الحكومة الحالي العبادي الذي يبدي مرونة في التفاوض مع مطالب الأكراد.
هنا من المتوقع أن تضغط إيران بقوة على العبادي خلال تفاوضه مع الأكراد مستخدمة حلفاءها السياسيين والعسكريين في العراق.. وأن تصرّ إيران، بعد طرد داعش، على بقاء وحدات الحشد الشعبي الموالية لها لمناوشة القوات الكردية ومحاولة الدخول معها في صراع كي تخلق حالة مضطربة هناك لتبرير بقاء نفوذها في شمال العراق.. لكن السلطات الكردية ستحاول ألا تنزلق في الفخ، وستسعى لجعل المسألة سياسية داخلية بالتفاهم الودي مع بغداد.. إنما تظل المواجهة بين إيران وكردستان احتمالاً مرجحاً..