علي الصراف
يمكن للتلفزيون أن يكون أداة تنوير ومعرفة. كما يمكنه أن يكون أداة للتخريب والفوضى. الأمر يعتمد على ما تريده منه. ولكنه بكل تأكيد ليس أداة صالحة لتغيير مسارات التاريخ.
عندما يلعب أي تلفزيون لعبة أكبر منه، فإنها سرعان ما تنقلب وبالا عليه.
وهناك محطات تلفزيون كثيرة، ويمتلك بعضها إمكانات تقنية وإخبارية هائلة، كما يمكنها، بما تمتلك من موارد وخبرات، أن تصل إلى أعماق بعيدة لمعرفة ما تريد الوصول إليه. إلا أنه لا توجد واحدة منها يذهب بها الزعم حد القول إنها ترسم تاريخا أو تغيّر مسارا أو تصنع ثورات.
لماذا؟ لأن أشياء كبيرة كهذه لا تُسلق سلقا، كما أنها تتطلب توليد قاعدة ثقافة اجتماعية عامة لا يستطيع أن تولدها أي قناة تلفزيونية تركض وراء "خبر" أو "حدث".
من ناحية لأن لكل ثقافة تاريخا، ومن ناحية أخرى، لأن لكل مُتغيّرٍ فيها عوامل داخلية لا يمكن اصطناعها ما لم ينطوِ الأمر على تزوير بدافع التدمير.
كيف اختارت "قناة الجزيرة" أن تكون أداة تدمير؟ ولأي غرض؟
عدا النفاق في التعامل مع القضايا المختلفة، حسب الموقف المسبق من هذا البلد أو ذاك، فإن هذه "القناة" تنتقي ما يناسب رؤيتها الخاصة، وليس ما يتعين التمسك به كمنهج. بالأحرى لا يوجد منهج، سوى تلك الرؤية. إنها موقف أيديولوجي مسبق. واختياراته جاهزة سلفا.
ومثلما يمكن لأي محطة تلفزيون أن تحول أي موضوع للإثارة إلى سبب لإثارة أعمال التحريض والاضطرابات، فإن تمويلها (كما تفعل "قناة الجزيرة" عادة) يقصد سفك الدماء أيضا. وبدلا من التركيز على نقل الحقيقة، فإن هذه القناة تنقل موقفها من الحقيقة وليس الحقيقة نفسها.
لقد جندت "قناة الجزيرة" نفسها لكي تخدم مشروع الفوضى. والأساس الذي تستند إليه، هو ذاته الأساس الذي يستند إليه مشروع "الفوضى الخلاقة". فبقلب عالي المجتمعات سافلها (حسب ذلك المشروع) فإنه يمكن بناء أنظمة جديدة لا تشكل تهديدا لإسرائيل، كما تغرق بدمها قبل أن يكون بوسعها أن تتحول إلى "أنظمة ديمقراطية". و"الديمقراطية" المقصودة، هي "ديمقراطية" التنافر والتمزيق الاجتماعي على أسس طائفية أو عرقية أو مذهبية. الأمر الذي يوفر الأرضية لكي تتحول "الديمقراطية" إلى مشروع للفساد الشامل، بحيث يمكن لكل طرف خارجي أن يجتذب أطرافا داخلية فيستأجرها لخدمة مصالحه.
نموذج "الديمقراطية" في العراق ماثل للعيان. إنه هو النموذج الذي يحسبه مخططو "الفوضى الخلاقة" صالحا لكي يتم تطبيقه في كل مكان. فإذا كان هذا النموذج قد أسفر عن مقتل مليون إنسان وتشريد خمسة ملايين وهدم خمس مدن كبرى (الرمادي، الفلوجة، كركوك، تكريت، الموصل) عن بكرة أبيها تقريبا، فإن نقله إلى أربعة بلدان أخرى، سوف يعني مقتل 4 ملايين إنسان وتشريد 20 مليونا، وهدم 20 مدينة. مع ذلك، فإن المسألة الأخطر لا تكمن هنا. إنها تكمن في نسف الهويات، وليس في نسف المدن أو قتل البشر فقط. فلكي يمكن لمشروع "الفوضى الخلاقة" أن يهدم نموذج الدولة الوطنية القائم (بالمعنى الجيو- سياسي على الأقل)، فإنه يبدأ بهدم الهويات فيها. وهنا يأتي دور تنظيمات "الإسلام السياسي" التي تنفق قطر المليارات لدعمها. فبدلا من هوية "عراقية" أو "سورية" أو "مصرية" جامعة، فإن الهويات البديلة سوف تصنع "شعوبا" جديدة متصارعة، كلاًّّ على أساس هويته البديلة.
إنه مشروع لمجازر وحشية ودول فاشلة، ولكنه أيضا مشروع لجعل المستنقع واسعا ومفتوحا لترتع به كل تنظيمات الإرهاب، كما رأينا بالفعل في العراق وسوريا وليبيا وتونس. دعم تنظيم "الإخوان" إنما يقصد تحقيق هذا الهدف. حتى أن التجربة في مصر أظهرت بوضوح أن التمزيق يمكن أن يذهب إلى ما هو أبعد من "مسلم ضد مسيحي"، أو "مسلم ضد آخر"، بل "مسلم إخواني" ضد "مسلم غير إخواني" أيضا. الأول يجوز "التمكين" له، أما الثاني فيجوز تهميشه وظلمه.
هذه ليست وظيفة أي تلفزيون. إنها وظيفة مشروع تآمري سافل ومنحط. وعندما تتورط به أي محطة، فمن الخير أن تُغلق.