خالد بن حمد المالك
مثلما قلنا من قبل، فقد كانت قطر واحة حُبٍّ، ونضيف إلى ذلك بأنها كانت دوحة أمان، ومعزوفة سلام، لا تسمع منها إلا غناء العصافير، وشدو الطيور، والكلام المموسق الجميل، يتعلم منها الآخرون فنون التعامل الراقي، والسلوك الحسن، ويحاكونها في وفائها وإخلاصها والتزامها بالمواثيق والقرارات، وكل ما يقربهم منها ويقربها إليهم؛ كانت هكذا، اسم جميل، يتردد على كل لسان، فتطرب له الآذان، وتنتشي مع ترديد النفوس له صباح مساء، فهي الحاضرة أبداً، والدولة التي لا تغيب، بتاريخها وأصالتها وحداثتها، ونبل مواطنها الشقيق، فأحببناها لكل هذا، وقدَّرنا تميزّها بكل هذه الصفات، فوضعناها هكذا في عقولنا وقلوبنا، أثيرة عندنا، شامخة في عيوننا، كبيرة وعظيمة وملهمة عند كل منَّا.
* *
هكذا كانت في ماضيها، وهكذا هي ليست في حاضرها، فقد تغيرت في كل شيء، وتحولت من دولة مسالمة إلى أخرى عدوانية لم نألفها من قبل، صرنا نخاف منها، نتوجس من تصرفاتها، يغضبنا سلوكها، ويتفجَّر الغضب لدينا أكثر كلما رأينا أن هذا هو حالها، فهي مشاغبة ومتمردة، وهي تمارس العدوان، تستحسن التطرف ضمن توجهاتها، وتستدعي العنف لخلق الفوضى في ديارنا، تكره السلام، وتعادي الأمان، وتتصرف كما لو أنها ليست منَّا، أو من فصيلتنا الخليجية، فلا يجدي نفعاً معها وساطة من هذا أو ذاك، أو محاولات تتكرر لإرضائها في مقابل تعديل سلوكها، فهي ماضية ومستمرة في عنادها، لا تقبل بغير ما يُملى عليها، ولا تثق إلا بما يقوله الأعداء لها، أي أننا بين دولتين قطريتين الأولى كانت بجمالها من الماضي، والأخرى بقبحها التي هي بيننا الآن.
* *
هذا ما يمكن أن يُقال عن قطر بين عهدين، عهد الوالد خليفة آل ثاني، ثم العهد المزدوج للابن حمد وابنه تميم، في العهد الأول كان هناك انسجام وتفاهم بين قطر ودول مجلس التعاون، سنوات من الحكم بلا خلافات، وإن وُجدتْ يتم تطويقها بسرعة، وبسرية تامة، ودون تدخل أجنبي فيها. وفي العهد الثاني تغير كل شيء، فُتحتْ صفحة جديدة من العلاقات التي شابها ما شابها من التوتر والخلاف والنزاع مع أكثر من دولة خليجية وعربية، وأُتيح للدول والمنظمات الأجنبية والأفراد غير القطريين ليغزوا قطر بأفكارهم وتسلطهم وتخريبهم، وكأن الدولة بلا قيادة، ومن غير إرادة، وكأنها من دون سلطة حقيقية، فالتحكم بالقرار، وتوجيه دفة الحكم هو بأيدي الأجنبي الطامع بخيرات قطر، والساعي إلى إحداث فجوات من الخلافات بينها وبين أشقائها.
* *
طافت في ذهني هذه المقارنة بين ما كانت عليه قطر وما أمست عليه، فيتكدَّر الخاطر إذ تستسلم الدولة الصغيرة لممارسات لا تخدمها، وأن يُذكي خلافاتها مع أشقائها الأقربين الأعداء لهؤلاء الأشقاء، فلا يجدون من الدوحة إلا الدعم والمساندة والتمويل لكل مشاريعهم العدوانية، وتذكرت الماضي الجميل، حين كانت قطر جاذبة لنا في كل شيء، رغم صغرها، وذات مستوى ورأي معتبر عند تمثيلها في القرارات المصيرية لمنطقتنا، فإذا بها اليوم أضعف من أن يكون لها مثل هذا الدور، بل إن الأنكى من ذلك أنها أصبحت متآمرة ومتسلّطة، وليس لها من هدف إلا إثارة النزاعات والفوضى في دولنا، وإشغالنا عن ما هو أهم من الخلاف معها، لكنها عقلية النظام، وحجم إدراكه، ومستوى تفكيره العقلاني في إدارة الأزمات، حيث محاولة الهروب من المسؤولية عن كل الجرائم التي ارتكبتها دولة قطر ضد الأشقاء والجيران على امتداد الوطن العربي الكبير.
* *
لا أدَّعي بهذا الرأي ما ليس صحيحاً، فأنا أتحدَّث عن حالتين مختلفتين من عهدين يتميز كل منهما بما هو وبما يتفق مع ما سُجل في صفحات التاريخ، ولا أقوِّل النظام القطري أو أتهمه بما هو بريء منه، فالناس والدول شهود على هذا التخبط القطري في إدارة الدولة، وفي التعامل مع الدول الأخرى، ولا أبْلغ من إدانة قطر بما فعله شيوخها، ولا أقوِّل مواطنيها، وهم أبرياء من أي أعمال أثارت حفيظة دولنا، وأغضبت قادتها، واضطرتهم إلى قطع العلاقات معها، وإقفال الحدود بينها وبين الدول الشقيقة. فمثل هذه الأعمال لم تكن معروفة، ولم تمر بها منطقتنا قبل انقلاب الشيخ حمد على والده واستيلائه على الحكم، وامتداداً حين تنازل عن سلطاته لابنه الشيخ تميم. أي أننا نتحدث عن حقائق لا عن أوهام، وعن واقع حقيقي وليس افتراضياً، ونضع أيدينا على الجرح النازف بما نكتبه، وفقاً للوثائق والمستندات والوثائق والتسجيلات الصوتية.
* *
لقد أصبحنا مع واقع جديد لدولة قطر، غير تلك التي كانت قبل استيلاء الشيخ حمد بن خليفة على الحكم، ولم نعد نقبل بأي تبرير للأعمال الإرهابية والتطرف التي يمارسها النظام القطري، تحت أي ذريعة ولأي سبب، فقد أصبح هذا السلوك القطري مكشوفاً، والتعامل معه يتم بحزم، ونظام تميم هو الآن على المحك، فإما أن يتبرأ من كل التعدي على أمن الدول الأخرى، ويوثق ذلك، ويعدُ بعدم العودة إلى تسخين المنطقة بشيء من الممارسات الإرهابية، أو أن يتحمل مسؤوليته في مواجهة دفاع دول المنطقة عن استقلالها وأمنها واستقرارها، فالتعامل المرن مع الدوحة، والتسامح مع شيوخها، ومحاولة رأب الصدع بالوساطات، والتفاهمات لم تجدِ نفعاً، ولم تنه معاناة هذه الدول وشعوبها من الظلم القطري، وتسلطه دون وجه حق.
* *
لقد راعت دولنا منذ بدأت المؤامرات القطرية حق الجار والشقيق، وحاولت أن تحل مشكلتها مع قطر بالتي هي أحسن، وتعمدت أن تتجنب أي تصعيد يزيد من التوتر في المنطقة، وطرقت كل الأبواب التي ظنت أنها قادرة على حل الإشكال مع الدوحة، مستعينة بوسطاء وغير وسطاء، وجرَّبت كل ما اعتُقد أنه يقنع القطريين في إيجاد حل لمشكلة هذه الدول مع قطر، غير أن جميع الأفكار والمبادرات والمحاولات تم إفشالها من قطر، وأن المجاملات وأسلوب التهدئة التي كانت ضمن الجهود لم تلق الدوحة لها بالاً، وأصرت على مواقفها، منكرة كل التهم الموثقة التي وجهت لها، وحتى ما تم الاعتراف به، والاعتذار عنه، والتوقيع على عدم تكراره، نكثته، وادعت لاحقاً أنها بريئة منه.
* *
ليت قطر تعود إلى ما كانت عليه، دولة لا تضمر عداءً لأحد، تسعى إلى لملمة الجراح، كلما كانت هناك مشكلة، تُغلِّب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتتفهم مطالب الأشقاء، وتستوعب سبب تخوفهم من أعمالها، ليتها تكون في مستوى التحديات، وفي موقع المسؤولية الصحيح، فتمسك بالسلطة دون أن يخترقها الأعداء، فقطر تستحق أن تكون دولة مستقلة، وصاحبة قرار سيادي، وبالتالي فلا تسمح للغرباء من عرب وعجم بالعبث بها، أو إساءة علاقاتها بأشقائها، أو تحويلها إلى حصان طروادة للقفز على مصالحها ومصالح أشقائها، فالمؤامرات التي تحيط بالدوحة أخطر - على ما يبدو - من أن يلم بها ويفهمها غير العارفين بالأمور في السلطة القطرية من شيوخ وغيرهم.
* *
قطر وإمعاناً منها في إثارة الفوضى في منطقتنا وبين دولنا، فتحت أرضها مرتعاً لكل من يريد أن يضع منطقة الخليج أرضاً للإرهاب، وألغتْ عن عشرات الدول الحاجة إلى تأشيرات الدخول لقطر، وسمحت للقوات الأجنبية والاستخباراتية لتؤدي دورها في خلخلة الأمن في دولنا انطلاقاً من الدوحة، مضيفةً بذلك قرائن جديدة على أنها ماضية في سياسة التصعيد في ممارساتها الإرهابية، ودعمها للتطرف، والعنف، والتحريض، مع الاستمرار في التدخل في شؤون الدول الشقيقة، وتسهيل المهمات الإرهابية والاستخبارية لمن يريد أن يسئ لأمن الدول، وهو ما اضطر هذه الدول إلى اشتباق هذه القرارات بقطع العلاقات وقفل الحدود مع الدوحة، باعتبار ذلك حائط صد يمنع العدوان، ويحُول دون تسلل الإرهابيين.