د. حمزة السالم
المجتمع الزراعي لا يقوم بذاته، بل على نتاج الأرض، ولكنَّ للإنسان دورًا جسديًّا في الإنتاج دون الدور العقلي؛ فهو تابع في عقليته لمنطق الأرض؛ لذا لا يتسم المجتمع الزراعي بالتقدم الفكري؛ ولهذا لا يخرج من حيز الفقر للغالبية منه. إذًا فاعتماد اقتصاد مجتمع على شيء خارج عنه يُفقد المجتمع الاستقلالية الفكرية؛ ولهذا يفقد المجتمع استقلاليته الاقتصادية.
وتُعتبر الصناعة عمومًا اقتصادًا قائمًا بذاته نسبيًّا، من الاستقلال الكامل إلى التبعية الجزئية؛ فهناك مجتمع صناعي قائم على التجميع كبعض دول آسيا وجنوب أمريكا، وهناك مجتمع صناعي قائم على التقليد كالصين، وهناك مجتمع صناعي قائم على التطوير كاليابان وأوروبا عمومًا، وهناك مجتمع صناعي قائم على سرقة اختراعات الغير كالروس، وهناك مجتمع صناعي قائم على الاختراع والإيجاد، ولا يقبل غيره، كالاقتصاد الأمريكي؛ ولهذا فالاقتصاد الأمريكي أعظم اقتصاد مستقل قائم بذاته ومستديم شهده التاريخ. (واقتصاد الغزو قائم بذاته، ولكنه غير مستديم).
فالاقتصاد لا يشكل النظام السياسي فقط، بل قد يشكِّل حتى طريقة تفكير المجتمعات. ألا ترى أثر المسكنة والخضوع والسطاحة الفكرية في المجتمعات الزراعية، كنتيجة تبعية المجتمع الزراعي في فكره لنتاج الأرض، مع استغلالها لجسده. وكلما كان الإنتاج مستقل الفكر زادت مقدرته على فرض هيمنته على الغير؛ لذا لا يخشى الأمريكي أن تكون زوجة رئيس استخبارات بلاده روسية أو أن يكون هو نفسه صينيًّا أو إيرانيًّا لم يطأ أرض أمريكا إلا مراهقًا. وفي المقابل، نخشى نحن مثلاً على فكر قضاتنا من إرسالهم لأمريكا، وهم نخبة المجتمع.
فحتمية ربط الريال بعملة أخرى قادمة من كون اقتصاد مجتمعنا لا يقوم بذاته إنما بشيء خارج عنه. فالنفط نتاج الأرض؛ ليس للإنسان دور عقلي ولا جسدي في إنتاجه؛ ولهذا تحتم على اقتصادنا ربط عملته بغيرها؛ فهو يتبعها؛ فلا ينضبط كون العملة مستقلة قائمة بذاتها بينما اقتصادها تابع لغيره.
فالنفط جعل الاقتصاد جسدًا، يحمل فكره إلى غير وجهة، وبثروة لا يقدر حقها. ومن هنا جاءت حتمية ربط الريال بالدولار؛ فتبعية الريال للدولار خير من جسد متعافٍ هائم إلى غير وجهة. وكون الدولار هو الأنسب على الإطلاق سببه أن الريال قيمة نفطية، والنفط يسعر بالدولار. والدولار قيمة اقتصادية مستقلة متكاملة؛ ولهذا كان الدولار هو الملجأ الآمن في الأزمة المالية، رغم أنه كان السبب فيها.
لذا متى كسر الريال هام المجتمع الاقتصادي النفطي بثروته يمنة ويسرة يبحث لها عن اقتصاد قائم بنفسه، فما يعود للريال من قيمة تذكر. وهيبة العملة من هيبة الدولة، فمتى زالت إحداهما زالت الأخرى.
مجتمعنا اقتصادي، ما زال بدائيًّا جدًّا في نظامه المالي والنقدي، فما عليك ألا تجلس في بيتك، وتصور مسرحية مع أبنائك، تمثل فيها ميزانية وبنكًا؛ فتفهم كثيرًا من أبعاد اقتصادنا، وتقدر على فهم ما عجز عنه كثير من الاقتصاديين؛ فالاقتصاد علم منطق بسيط، يحكي سلوكك البشري. فمتى لم يخادع المرء نفسه في حقيقة سلوكياته البشرية، ولا يتخيل المثالية، وتخلى عن تصوراته الخاطئة أو محفوظاته أو تبعيته الفكرية، فسيفهم الاقتصاد.