د. محمد عبدالله العوين
اكتشف النفط في قطر 1939م بكميات قليلة في جبل مدينة الدخان على الساحل الجنوبي غربي قطر؛ لكن الإنتاج تعثر بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، ولم يبدأ إلا عام 1949م الموافق 1369هـ وشكل بداية عهد جديد لقطر مع الثروة مترافقا مع تعهد بحماية عسكرية بريطانية نظير منح امتياز التنقيب والإنتاج لشركة الإنجلو - فارسية، فانتقلت قطر من الفقر المدقع بعد انهيار صناعة اللؤلؤ إلى الاكتفاء النسبي، ولكنها تقفز فجأة إلى الثراء الفاحش باكتشاف أول بئر غاز في مياهها الإقليمية والمشتركة مع إيران 1971م باكتشاف الغاز في بئر الشمال الذي يعد أكبر بئر غاز في العالم، ويقدر مخزونه بما يزيد على900 ترليون متر مكعب من الغاز المسال، ومع توالي اكتشافات أخرى بين فينة وأخرى تربعت قطر على منصة إنتاج الغاز وتصديره على مستوى العالم بحيث أصبحت الثالثة بعد روسيا وإيران.
لقد قلب الغاز الحياة في قطر رأسا على عقب؛ فبدل حياة الشعب القطري ونقله من الفقر والكفاف والعيش البسيط على أقل الموارد التقليدية المعروفة والتعليم المتواضع والسكن غير الملائم في كثير من الأحياء إلى حياة جديدة مختلفة كل الاختلاف انتقلت بها الأسرة القطرية إلى مستوى مرتفع جدا من التعليم والخدمات والرفاهية والرغد في العيش، وأصبح متوسط دخل المواطن القطري الأعلى في العالم.
لكن نعمة الغاز التي قلبت الحياة رأسا على عقب في قطر من الفقر والتخلف إلى التحضر والمدنية قلبت أيضاً الموازين النفسية والعقلية والأخلاقية في رؤوس أصحاب القرار السياسي حينما وقع في أيدي السفهاء ممن زينت لهم مليارات الغاز السائلة المتدفقة بين أيديهم على حين غرة أنهم يستطيعون تغيير حدود الجغرافيا وحركة التاريخ وموازين الدول وولاءات الشعوب ومنطقة الشرق الأوسط!
لا؛ بل إن شياطين الغاز الآثم زينت لهم ما لا يخطر على بال بشر من الأفعال الشريرة والمكايد الخبيثة والمطامع البعيدة التي لا يمكن لمن يملك ذرة عقل وإدراك أن يتخيلها؛ فقد ذهب تدفق الغاز بعقولهم وسلب ألبابهم وزين لهم سوء أفعالهم، وغرهم وضرهم وما سرهم ولا نفعهم؛ فخيل لهم أن في وسعهم تغيير حدود الدول ومحو وإعادة رسم خرائط المنطقة ومساعدة دولة إيران على الزحف وابتلاع دول منطقة الخليج، واكتساح جزء كبير من شمال الجزيرة العربية عن طريق مليشياتها، كما حدث في العراق وسوريا ولبنان واليمن؛ لتكون إيران مع إسرائيل الدولتين القائدتين في المنطقة ومنح دويلة قطر جزءاً من الكعكة للتوسع في الجزيرة العربية لتخرج من نطاقها الضيق المحدود كلسان ممتد بين ثلاث ضفاف بحرية وممر بري واحد.
لم يكن هذا الخيال المرضي الذي صنعه الغاز الآثم في الرؤوس المريضة بالعظمة المتخيلة والمنتفخة بالأحلام الكبيرة مطمع تنظيم الحمدين فحسب؛ بل هو أيضا خطة استراتيجية مبيتة لدول كبرى تتربص بالمنطقة وتنفذها على مراحل وفق سيناريوهات مختلفة بين الشد والجذب حسب الظروف تحت مسمى خطة « الشرق الأوسط الجديد « لصالح إسرائيل أولا، ثم لتحقيق الأمان للتيار اليميني المتصهين من الاطمئنان إلى عدم قدرة العرب أو المسلمين على الانبعاث من جديد؛ بتقسيمهم وتشتيتهم ورمي دولهم في أتون الحروب والنزاعات الإقليمية والطائفية والدينية.
إيران يد طويلة تنفذ جزءاً من الخطة لتكون البديل عن الإسلام السني المتطرف (كما ترى الدوائر اليمينية المتصهينة) ويسمح لها بنيل قدر معين من أحلامها الإمبراطورية في التمدد والهيمنة، وقطر تنظم وتستقطب وتدعم وتدير وتكافأ بما تحلم به بالتوغل في وسط الجزيرة العربية وشرقها، أما إسرائيل فستكون السيدة الأولى في المنطقة بلا منازع بعد أن تقوم بحملة حربية توسعية شاملة لإقامة دولة إسرائيل الكبرى الممتدة من النهر إلى النهر!
لقد لعب الغاز الآثم لعبته فانقلب من نعمة إلى نقمة، وأصبحت الدوحة وكراً، وانقلبت من مركز غنى وثراء ومدينة تقدم منتظرة تنافس دبي إلى مدينة تحيك المؤامرات وتؤوي الإرهابيين وتساكن المتناقضين المتنافرين من أصحاب الملل والنحل والأيديولوجيات والمذاهب والشعارات من إسلاموي إخواني وسلفي وصوفي وطائفي وفارسي شعوبي ويساري وقومي وبعثي ودرزي وحوثي وإسرائيلي!
بعض الغنى نقمة!