تركي بن رشود الشثري
معيقات العمل
يقول صاحب كتاب قوة التركيز «الثقة تنمو بالفعل وليس بالتفكير». وبالفعل كم مر بك من أناس يتحدثون ملياً عن مشاريع كبرى وأفكار عظيمة وأعمال جليلة وها هم في نفس المكان لم يبرحوه؟ لماذا؟ لأن لديهم ثقة في أنفسهم، وكذلك المجتمع منحهم شيئاً من الثقة المشوبة بحذر، ولكن للأسف هذه الثقة لم تنمُ بل تراجعت لتخلف الفعل والعمل عن القول؛ فالدعوى عريضة والواقع صفري؛ لذلك يقول روبن جونزاليس «القادة يتخذون القرارات طوال الوقت، والتابعون يعرضون الاقتراحات. عرض الاقتراح أمر سهل؛ لأنه لا يتطلب عملاً ولا خوفاً من الفشل، أما اتخاذ القرارات فهو أمر عسير؛ فهو يتطلب شجاعة، وهناك دوماً قدر من المجازفة». ويضيف صاحب كتاب قوة التركيز في لفتة دقيقة «الطريق إلى الثقة محفوف بالانتصارات الأسبوعية». وكأنه يحيل إلى التوقيت، وأن الأهداف غير المضبوطة بوقت محدد عبارة عن هلام، وأن النصر الصغير إلى جوار النصر الصغير في تتابع أسبوعي من أهم عوامل بناء الثقة. وحاول أن تأتي بسنن الجمعة كاملة، وانظر مردود ذلك على سائر الأسبوع. وعليه قس.
يقول تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}.
أتيت بهذه الآيات كاملة عن قصد؛ فهي تكشف لنا بجلاء الميزان الذي توزن به المبادرات، وتبيِّن لنا الأولويات كما يريد الله منا لا كما نشتهي نحن أو نجتهد نحن. فهذه أوصاف كريمة للصحب الكرام؛ فهم دائمو الذكر على كل حال، وهم يتفكرون في المخلوقات والأكوان؛ فقلوبهم حية حاضرة شاهدة، قد دلتهم هذه القلوب الذاكرة المتأملة أن النار عذاب لا يطاق، وأن بأس الله شديد فألحوا في دعاء صادق أن يقيهم الله شر هذه النار، والله جل وعلا أجاب على هذا التفكر والتذكر والدعاء بأنه لا يضيع أعمالهم؛ فالعمل هو الأول، والتذكر والتفكر والدعاء كلها أعمال، ثم نص على بعض أعمالهم التي فيها تضحية وتخلٍّ عن حظوظ النفس وتجاوز للهوى، وهي الهجرة وتحمل مفارقة الأوطان واستعذاب الآلام في سبيل الله، وتتويج ذلك بدفع نفوسهم رخيصة لله تحت راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إذن العمل هو المقدم في شأن الدنيا وفي شأن الآخرة.
وعلى ذكر الصحابة في معرض الحديث عن العمل هناك من يكرس في خطابه عن حسن قصد الحديث عن الصفحات المشرقة من أحوال وعبادات وأعمال السلف. وهذا جيد على مستوى التنشيط ورفع الهمم، ولكن إذا أضاف إلى ذلك المقارنة المجحفة بين الزمانين واللحظتين، لحظة السلف حيث النقاء والطهر والعطاء، ولحظة العصر الحديث حيث آفات القلوب واعوجاج النفوس، فهو بذلك يضفي على المشهد مسحة من السواد والكآبة وقلة الحيلة والإفلاس الروحي والنقص الإيماني. فلا بأس من التذكير بمقامات السلف مع التأكيد أن القدوة هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به ميسور لكل أحد، فالله لا يكلف بما لا يطاق بالمعنى البريء لا بالمعنى المعتزلي، وكذلك إذا كان ولا بد من المقارنة فكما أوصى أحد الحكماء بأن نقارن خواص السلف بخواص الخلف، لا أن نقارن خواص السلف بعامة المسلمين اليوم مع مراعاة خير القرون واختلاف البيئة والظروف المحيطة، وغير ذلك من عوامل.
ومن معيقات العمل قدرة النفس البشرية الفائقة على الاعتذار والتبرير والتملص وصياغة الوهم والعيش في كنفه، بل كلما زاد ذكاء الإنسان استطاع أن يبنى جداراً منيعاً بينه وبين الفعل، واستطاع أن يراوح مكانه بعدما نسج حول هذا المكان المريح خيوطاً حريرية من الأعذار والتبرير للنفس؛ ولهذا نفهم كيف أن متوسطي الذكاء العاملين يتفوقون في كثير من الأحيان على من هم أكثر ذكاء. وخذ مثالاً على ذلك: أين الذين حصدوا العلامات الكاملة في الجامعة؟ وأين الذين تخرجوا بتقديرات متوسطة على مستوى الفاعلية في الحياة والدأب في الأعمال؟ فمتى ما قبضت على نفسك متلبسة باختلاق الأعذار ومكافحة المشاريع العملية فقل لها: نعم لديك حزمة لا بأس بها من الأعذار، وقد بينت لي أن الطريق محفوف بالحفر، ولكني سأقفز على هذه الحفر، وإن سقطت في إحدى هذه الحفر فسأقوم لأنفض الغبار وأواصل السير، وإذا جاءت لك بمشكلة فأعطها عشرة حلول، فأنت ذكي كما أسلفنا، وتحول العقبات إلى منطلقات ودوافع. اتخذ قراراً حاسماً بأنك ستعارك الصعاب، وتحاور الإشكالات، وتتفاوض مع المعيقات، وستلتف على كل ذلك برشاقة؛ لترسم لوحة متحركة بالألوان والأضواء، تلون بها حياتك الكئيبة ومكتبك الأغبر وكوبك البارد.