محمد عبد الرزاق القشعمي
أما مدارس المدينة فكانت أساساً (الكتاتيب) التي تُدرِّس القرآن، وأدوات الدراسة هي اللوح والقلم من أعواد البوص المجوف ويتعلمون الهجاء على القاعدة البغدادية وهكذا، إلى جانب الكتاتيب يوجد مدرسة ابتدائية واحدة كانت تعرف بمدرسة (الصبّاغة) لأنها كانت تقع في شارع يوجد فيه محترفو صباغة الأقمشة وكان يديرها السيد ماجد عشقي وهو أستاذ لأجيال من أهل المدينة المنورة، كما توجد مدرسة العلوم الشرعية التي أسسها محسنو المسلمين من الهند، ومدرسة أخرى للأيتام، ومدرسة ثانوية كان يرأسها محمد سعيد دفتر دار.
وقال إنه بدأ دراسته في كُتَّاب حي العنبرية حتى أتقن القاعدة البغدادية وحفظ جدول الضرب على يد المرحوم الشيخ حسن بشير وهو أحد مؤذني الحرم الشريف، ثم أدخله خاله ناصر العامر في مدرسة الصبّاغة برفقة أخيه صالح، ثم التحق بالمدرسة الثانوية وكانت تحتوي على خمسة فصول في خمس سنوات دراسية، وكان على الطالب بعد أن يجتاز امتحان السنة الخامسة أن يذهب إلى مكة المكرمة ليكمل الفصل السادس والأخير في مدرسة تحضير البعثات، وهي المدرسة الثانوية الوحيدة بالمملكة، وكانت في قلعة أجياد، وكانت تتكون من ثلاثة أدوار، الدور الأول للإدارة والثاني للفصول الدراسية، أما الثالث فخصص مسكناً للطلبة المغتربين أمثاله.
وقال إنه إلى جانب دراسته المنظمة يتابع ما يصدر من صحف ومجلات مصرية تصل الحجاز في المدينة ثم في مكة، وكان معه مجموعة من الشباب المتحمسين يجمعهم الحس الأدبي، وكانوا يتابعون المعارك الدائرة وقتها بين الجامعيين المنبهرين بحضارة الغرب وعلى رأسهم مصطفى عبدالرازق وطه حسين والفئة المحافظة المقاومة للغز والفكر الأجنبي والمتصدية للحملة (العلمانية) المعلنة، وهي الفئة التي كان يزعمها مصطفى صادق الرافعي وعباس محمد العقاد وزكي مبارك.
وقال إن من بين أصدقائه في تلك الفترة ماجد أسعد الحسيني، وقال إنه استفاد من مكتبته كثيراً، ولكن ثقافته الدينية تعود لشخصين أو لهما والده الذي كان يكلفه بالمنزل بإسماعه جزءاً من (سيرة ابن هشام) كل يوم ويقوم بشرحه له ولأخيه صالح، أما الشخص الثاني فهو الشيخ عبدالله هاشم اليماني (والد د. هاشم عبدالله يماني، وزير التجارة والصناعة الأسبق)، فقد كان صديقاً عزيزاً ومرشداً. قرأت عليه أمهات الكتب في الفقه والعقيدة، وتعرف من خلاله على الأئمة ابن تيمية وابن القيم والإمام الصنعاني وغيرهم. وكان له دكان يبيع به الحبوب فيبكر في الذهاب إلى صلاة المغرب في الحرم ويسير معه مدة ساعة أو أكثر مشياً على الأقدام، وكان قبل أذان المغرب يشرح له خلال المشي مبحثاً يختاره مما كان يقرأ يومها من المراجع، وقال إنه علَّمه بل وحفَّظه كثيراً من الأذكار والأدعية المأثورة، كما ذكر بإجلال الشيخ الحافظ الذي يعلمه في منزله شرح العكبري على ديوان المتنبي وكان من أشد المعجبين بالشاعر.
وقال إنه في مدرسة تحضير البعثات هو أولهم، إذ إن عدد طلاب الفصل لا يتعدون أربعة وعشرين طالباً، وكان أول الخريجين كما يذكر في القسم العلمي الطبيب سليمان فقيه، وكان ذلك عام 1369هـ.
ابتعث إلى مصر وركب الطائرة لأول مرة بعد الحج، وكان لابد أن تهبط الطائرة في محجر (الطور) في قناة السويس قبل دخول القاهرة، وذلك كإجراء وقائي بعد انتشار وباء (الكوليرا)، وكان عليهم أن يمكثوا في المحجر أسبوعاً كاملاً للتأكد من سلامة الركاب من أي وباء - إذ كان يعتقد أن الوباء في مصر إنما يأتي مع الحجاج العائدين - وقد التحق بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة فيما بعد) والتي كان لجمعية الإخوان المسلمين دور فاعل كقوة سياسية بعيد اغتيال مؤسس الجماعة حسن البناء، وذكر أن والده سبق أن عرض عليه - عندما كان بالمدينة - مرافقته للاستماع إلى محاضرة لإصلاحي مصري في مدرسة العلوم الشرعية وإذا هو حسن البناء وكانت محاضرته مشحونة بالحماس والصدق، وقد سمع بعد ذلك أن حسن البناء عند قدومه للحج ذلك العام «.. قد طلب من الملك عبدالعزيز أن يسمح له بإنشاء فرع للإخوان في المملكة فقال له الملك الداهية: ألم تعلم أني وجميع شعبي من الإخوان المسلمين، وأن جميع المملكة فرع من جماعة الإخوان، وهل لا ترضى بي رئيساً لهذا الفرع؟!! وهكذا تغلب دهاء الملك على طموح مؤسس الإخوان».
قال إنه التحق بكلية الحقوق ويقيم في دار البعثات السعودية بالقاهرة والواقعة في شارع عبدالمنعم في الدقي، قريباً من الجامعة، وقال إنه يركب المترو كغيره من الطلاب ويلبس الطربوش الأحمر كشرط لدخول دار البعثات أو الخروج منها إلى الجامعة، وقال إنه وزملاءه يتحايلون: «.. كنا نودع طرابيشنا لدى البقال الموجود تحت المبنى وكان اسمه (سعودي). وقد كتب اسم صاحب كل طربوش في داخله..»، وقال إنه قد شهد حريق القاهرة ثم انقلاب يولية عام 1952م. وقال إن الإخوان المسلمين قد أشادوا بالانقلاب أول الأمر ووصفوا (الضباط الأحرار) بأنهم «فئة آمنوا بربهم وزدناهم هدى».
وقال إن زعيم الانقلابيين محمد نجيب قد زار الرياض وقابل الملك عبدالعزيز، وقال إنه سمع «.. القصة التالية من الأمير طلال بن عبدالعزيز عندما كان وزيراً للمالية أيام الملك سعود - رحمه الله - وكنت آنذاك مديراً عاماً للوزارة بالنيابة، فقد ذكر أن الملك عبدالعزيز أصرَّ على أن يكون طعام الغداء في المربع وليس في سكنه الحديث في الفاخرية، وأن يوضع الطعام على الأرض، وقد حضر مع محمد نجيب - كرقيب عليه كما يبدو - أصغر (الضباط الأحرار) وهو صلاح سالم، وكان يلبس نظارة سوداء ويبدو عليه الكبر والغطرسة، فاقترح عليه الملك عبدالعزيز أن ينزع نظارته السوداء (لتتمكن من رؤية طعامنا)! وبعد انتهاء الغداء وانصراف الضيف التفت الملك إلى من حوله وقال: «.. إني لا أعتقد أن الرجل الذي رأيته - ويعني محمد نجيب - هو من أخرج فاروق، وإنما أخرجه ذلك الـ ... الذي في مصر!! ويعني عبدالناصر».
بعد أن تخرج في جامعة القاهرة في يولية 1955م حاول الالتحاق بوزارة الخارجية، وعند ما لم يوفق اتجه لشركة (أرامكو) واختير من بين خمسة موظفين سعوديين ليكونوا من كبار الموظفين. فحاول الالتحاق بالإدارة القانونية فقيل له إنها مقتصرة على الأمريكيين، فبدأ عمله بإدارة علاقات العمل، وذكر أن من بين زملائه: صالح بابصيل وحسن المشاري وعمر با خيضر، وكانت مهمتهم أن يدافعوا عن الشركة ضد عمالها المفصولين من الخدمة أمام مكتب العمل والعمال، وقال: إن هذا المكتب تابع لوزارة المالية تحول فيما بعد إلى مصلحة العمل والعمال. وقال إنه عندما أسست مصلحة العمل والعمال حضر إلى الدمام الشيخ عبدالعزيز المعمر وكان مستشاراً للملك سعود فأقنعه بالانضمام إلى المصلحة فمكث فيها حتى عام 1377هـ / 1958م، حيث انتقل عمله إلى الرياض كأول رئيس لمصلحة التقاعد التي أنشئت حديثاً.
وكان انتقاله إلى الرياض بعد عام من انتقال الوزارات من جدة إلى الرياض، ويذكر أن الرياض وقتها لا تزال في محيط المربع وشارع الثميري وكان شارع الوزير خارج أسوار الرياض القديمة، وفي تلك الأيام بدأ مشروع توسعة الرياض وهدم الأحياء القديمة، والتوسع العمراني الذي كان قد بدأ من قبل في بناء الناصرية ومساكن الموظفين في حي الملز.
وقال إنه قد حصل أواخر عام 1381هـ/ 1961م على ابتعاث إلى فرنسا لإكمال دراسته العليا فحصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة (بواتييه) وهو يعادل الماجستير في الاصطلاح الأنجلو أميركي. ثم عاد إلى باريس ليكمل دراسة الدكتوراه في جامعة باريس الأولى (السربون)، وقال إنه أول طالب سعودي يحصل على إجازة دكتوراه الدولة في الحقوق من هذه الجامعة، فعاد إلى المملكة عام 1385هـ/ 1965م فانتدب بحسب رغبته للعمل في منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبيك) في (فيينا) ومكث فيها قرابة العامين كرئيس لقسم الدراسات المتخصصة.
وقال: «.. وكانت خيبة أملي كبيرة، فلم تعد المنظمة كما عهدتها مؤسسة فاعلة، فقد انتقلت مهمتها لوزراء النفط مباشرة بعد أن انتهى عهد عبدالله الطريقي - رحمه الله - ورفاقه المؤسسين، وكانت خيبة أملي أكبر عندما نشبت حرب الأيام الستة وأنا هناك، فقد رأيت بعيني واكتشفت كيف أن الغرب كله كان صهيونياً، وعدت إلى الرياض لأواصل عملي في مصلحة التقاعد، ثم فضلت العمل كأستاذ مساعد في كلية التجارة بجامعة الملك سعود (كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية حالياً.. ».
فتذكر معاناته عندما التحق بكلية الحقوق بالقاهرة وكيف أن القانون كان بالنسبة له أحاجي وألغاز فأراد أن يوفر على طلبته هذه المعاناة، فألف مجموعة محاضرات في كتاب سماه (مبادئ علم الأنظمة) جعله دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الفرنسي، وكانت الكلية تشترك مع كلية الزراعة في قصر الأمير محمد بن عبدالعزيز في عليشة.
قرر أن يفتح مكتباً للمحاماة لأن ذلك لا يتعارض مع عمله الرسمي عندما كان مسؤولاً عن التقاعد، وقد صدر أمر الملك فيصل بذلك وقال إن الدكتور مطلب النفيسه والأستاذ أحمد زكي يماني قد سبقاه بافتتاح مكاتب محاماة وأن مكتبه أصبح بجوار مكتب مطلب النفيسة في مبنى العزيزية بشارع الوزير، وأشاد بالدكتور مطلب وذكر أن له الفضل في تجديد معلوماته الفقهية بعد عودته من فرنسا، وقال إنه قد خير بين قفل المكتب أو تقديم استقالته من الجامعة، ولهذا اختار المهمة الصعبة فلم يندم على ذلك، وقال: «.. وخلال ممارستي لهذه المهنة تطورت مهنة المحاماة بخطوات جد بطيئة، فقد مرت سنوات وسنوات قبل أن يصدر نظام المحاماة، وفي عهد الدكتور سليمان السليم كوزير للتجارة أسست اللجنة الوطنية للمحامين السعوديين فكنت رئيساً لها بالتعيين مرتين وثالثة بالانتخاب، ثم انتخبت من قبل لجنة غرفة التجارة الدولية في مجلس الغرف لأكون عضواً في محكمة التحكيم الدولي في غرفة التجارة الدولية ما بين عام 1994م وعام 1997م، وبعد صدور نظام المحاماة عينت عضواً في لجنة تأديب المحامين إلى جانب الشيخ يوسف الفرج والأستاذ صالح ا لعجاجي من وزارة العدل لمدة ثمانية أعوام..».
وحول الأنظمة ومراحل تطورها في المملكة قال: «استحدثت رئاسة القضاء في عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - حيث تم تنظيم إدارة القضاء في المنطقة الغربية، وفي آخر عهده، ثم تشكيل الوزارات ولم يكن من بينها وزارة للعدل. وفي عهد الملك سعود - رحمه الله - صدر كثير من الأنظمة الحديثة وأهمها نظام الشركات، ونظام الأوراق التجارية، وأهم إصلاح قضائي في عهده كان إنشاء ديوان المظالم كمحكمة على غرار مثيلتها في مجلس الدولة في مصر لتكون مهمته الرئيسة الفصل في النزاعات بين الجهات الحكومية ومقاوليها.. وفي عهد الملك فيصل استمر في صدور الأنظمة الحديثة مثل نظام العمل المنقول من نظام العمل النموذجي الذي أعدته منظمة العمل الدولية في جنيف، ونظام التأمينات الاجتماعية المنقول من النظام الفرنسي، وبدأ في وضع نظام للحكم والتفكير في وضع نظام للمحاماة، بل وكتبت مسودة له منذ ذلك الوقت..».
وقال إن الملك فيصل قد بعثه إلى فرنسا على رأس بعثة اشترك فيها مع المرحوم الدكتور حمد الخويطر وغيره، وكانت مهمتهم التعريف بالمملكة وحث الشركات الفرنسية للمساهمة في تطوير البنية التحتية في المملكة.
وفي عهد الملك فيصل أيضاً أسست وزارة العدل وكان أول وزير لها فضيلة الشيخ محمد الحركان، ووسعت صلاحيات ديوان المظالم.. إلى أن قال: «وفي أيام الملك خالد والملك فهد - رحمهما الله - استمرت الإصلاحات النظامية والقضائية فصدر النظام الأساسي للحكم وتوالى صدور الأنظمة الحديثة، وفي أيام الملك عبدالله - رحمه الله - صدر أهم مشروع لتطوير القضاء، الذي أمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - حفظه الله - باستكمال تنفيذه، ويهدف إلى توحيد القضاء واستكمال بنيته، وكان باكورة عهده الموافقة على تأسيس هيئة المحامين التي طال انتظارها».