د. صالح بن سعد اللحيدان
لعله من الغني عن القول ومن نافلته كذلك أن أساسيات علم اللغة كأساسيات علم الحديث في عمقهما كلاهما، إنما هما موهبة وقدرات زائدة على الفهم والإدراك.
ولو فرضنا أن هناك رجلاً طلب اللغة سنين عديدة لإعجابه بها - على سبيل المثال - أو أنه يميل إليها ولكنه لا يملك الاستعداد الفطري أصلاً إنما يحضّر (بتشديد الضاد) من هنا وهناك، وينقل ويستشهد كذلك، فلا يمكن أن يصنف أنه عالم لغة موهوب أو يقارب ذلك، ولكنه قد يفيد من خلال عرضه للآراء أو أطروحاته، وإن كانت إنشائية.
ولو فرضنا جدلاً كذلك أن رجلاً يحب الشعر ويتذوقه ويقرأ منه كثيراً فإنه لا يمكن أن يكون شاعراً ما لم يكن لديه تلك الموهبة التي تفرض نفسها عليه، ولاسيما أن الشعر إنما هو من الشعور وتدفق المعاناة والحساسية المفرطة، وأعني هنا بالشاعر الشاعر الحر المكين؛ لأنه ليس كل شاعر شاعراً.
ولو أن رجلاً أيضاً معجبٌ بعلم الحديث ويتلهف على طلبه، ويسعى إليه جاهداً، وهو مع هذا لا يملك الموهبة، فإنه لا يكون عالم حديث، إنما يعتبر من الباحثين أو المحققين فيه ليس إلا ذاك.
ولذلك تحرص الدول على إنشاء هيئات علمية ومراكز علمية؛ لتسد مسد غياب الموهبة التي يميل صاحبها كل الميل إلى الانطواء والبُعد عن الأضواء ما وسعه السبيل إلى ذلك.
أقول: ولكن المشكلة (اليوم) إنما تكمن في إطلاق الأوصاف على كل مشهور له آراء أو كتابات، فيقال انظر المحدث الفلاني، أو انظر اللغوي الفلاني، أو انظر النحوي الفلاني، أو عالم الاجتماع أو السياسي، ونحو ذلك.
وهذا يعود - الحق أقول - إلى أن غالب الناس لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يميزون، بينما (الخبايا في الزوايا)، لكنهم لا يظهرون .
هذه تمهيدة رأيت أنها ضرورية؛ لعلها تؤخذ توصية من حريص على التجديد والسبق العلمي النوعي، ولعلها تؤخذ لدى المعنيين في الدولة من قِبل الهيئات العلمية والمجامع والمراكز، خاصة وزارة التعليم والجامعات والرئاسة العامة لهيئة كبار العلماء والمجامع اللغوية في كثير من الدول.
وأدخل الآن بعد هذه التمهيدة - بإذن الله تعالى - إلى صلب الموضوع الحساس الذي يكتنف اللغة والنحو جنباً إلى جنب.
وطرحي له هو لأنني أحسست عدم فقهه حتى لدى علماء كبار، ولدى مثقفين وأدباء وكتاب، كان قد يقع منهم بعض الخطأ فيه، لعله غير مقصود، وهذا الموضوع وإن بدا هيناً وهو (جزم الفعل المضارع).
ولعل البعض قد يستغرق ضاحكاً ماذا يريد صالح اللحيدان من هذا؟
فجزم الفعل المضارع معروف الحال، فكيف يتم طرحه، ولكن التأني سوف يظهر شيئاً فشيئاً عن هذا الجزم الذي تعددت أدواته، وقد يكون بعضها غير معروف إنما المعروف منها أسماء الصدارة الجازمة ليس إلا.
من هنا أبدأ القول إن جزم الفعل المضارع صورة من صور إعرابه. ولكي أبسط القول حول هذا فإن جوازم هذا الفعل تأتي على صور، منها ما يأتي:
1- إذا سبق الفعل بحرف جازم معلوم من حاله بالضرورة.
أولاً: مثل لام الأمر الصريحة نحو (ليتكلم العاقل أولاً). وتكون الميم في آخره ساكنه. وقس عليه.
ثانياً: إذا سبق الفعل باللام الناهية عن فعل أو قول، مثل (لا تعمل السوء). فاللام هنا آخر تعمل فوقها سكون.
ثالثاً: إذا سبق الفعل بـ(لم) نحو (لم يفلح الظالم).
رابعاً: إذا سبق الفعل بـ(من الشرطية) نحو (من يصدق يسد)، ومثلها تماماً (إن) الشرطية وهي مخففة من الثقيلة.
خامساً: إذا سبق الفعل بـ(لما) نحو (قدم العقلاء ولما يقدم معاذ).
سادساً: فمن ذلك حرف (ما)، وهو ما قد يفوق مثل (من) و(أن)، فقد وقع لكثير من العلماء والمثقفين الخلل أثناء الدروس العلمية.
و(ما) هذه كون البعض يقع في الخلل في عملها؛ وذلك يعود لعدم التنبه لعملها أصلاً في الفعل المضارع المقترنة به وإلا فإن الذوق العربي يستجلبها.
ومثال (ما) (ما تعملوا ندركه منكم)، ونحو (ما تفعل يظهر عليك) بتسكين اللام .
سابعاً: ومن ذلك مما يجزم الفعل المضارع (حيثما) نحو (حيثما تكون أجدك).
لكن حيثما هذه قد تكون ظرفية فلا يحسن الخلط بينهما؛ لأن دلالة الحس اللفظي توجب التفريق بينهما نحو (جئتك حيث الليل حل).
والمقصود أن الفعل المضارع في حالات جزمه يحتاج إلى التأمل وشدة التدبر قبل الكلام خلال المحاضرات أو الندوات أو الفتيا المباشرة أو التقرير العلمي أو الثقافي، ولاسيما أن هناك بعض الحروف تجزم فعلين، وهذا هو ما يحسن التنبه إليه مثل (من / أن / مهما / حيثما).
ولعل دراساتي العلمية المتابعة للحالات النفسية للعلماء والمثقفين والكتاب قد وجدت أن من أسباب حصول الخلل وعدم ضبط اللغة إنما لسبق العاطفة مع العجلة للوصول إلى النتيجة التي يريدها هذا العالم أو ذاك المثقف.
والعجلة لا جرم من صفات القلب لا العقل؛ فيقع الخطأ، ويحصل الخلل دون قصد يراد، إنما لحب الخير للوصول إلى الهدف.
من أجل ذلك لعل في هذا المعجم ما قد يساهم في الوسط العلمي والثقافي بشدة التنبه إلى إيصال العلم عن طريق آلياته بحذر وهدوء ورزانة.