علي الدميني
سـردية الحكـاية و«حكائيـة» الثقـافـة (2/ 2)
في المقالة الماضية عرضنا لتجليات هذا المنحى من خلال الوقوف أمام بعض القصص التي تستعير فيها مخيلة القاص كثرة من نصوص الحكاية - إما بالاستدعاء أو الاستعارة - في أبعادها الشعبية أو الأسطورية، أو فيما يتخلّق في الحياة اليومية من مواقف أو قصص، أو فيما يذهب إليه كمتخيّل سردي يبدعه الفنان في تجربته. ورأينا أيضاً أن بعض تلك الإبداعات في هذه المجموعة تنهل مما وصفناه بـ«حكائية الثقافة».. بمعنى أنه يحول الثقافة في بعدها «العارف» إلى حكاية ومن ثم يقوم بتسريدها.
وهنا سنستمر في إضاءة وقفتنا أمام تلك الأبعاد.
وفي قصة «تسقط الأوراق في فصل الخريف» تركز بؤرة السارد على معاناة المثقف الذي لا يملك إلا حرية قلمه، فيتم استدعاؤه للتحقيق.
تبدأ القصة بصورة وصفية لتفاصيل مناخ سجن وضعوا فيه مثقفاً، وبعد تفتيشه دوَّن المحقق، وبخط سيئ كما يصفه المثقف: «وُجد مع المتهم (ثدي رضاعة صغيرة)، قلم حبر ليس فيه نقطة واحدة من الحبر، ورقة بيضاء تتوسطها نقطةٌ سوداء في وسط الصفحة، وحين سئل المتهم عن ذلك كانت إجابته على النحو التالي (كان يراودني إحساس قاتل بحاجتي الماسة كل ليلة إلى الامتصاص، ولكنني لم أجد القارورة التي يمكن امتلاكها... لذا كنت كل ليلة أضع الثدي في فمي، وأرضع الهواء... ثم وجدت قلمي ليس به قطرة حبر... لأنهم منعوا الحبر، وأذاعوا بين الناس أن الأحبار سامّة، حماية للأمة من مخاطره.. وحين ضغطت عليه بقوة أفرغ هذه القطرة الأخيرة في وسط الصفحة)».
لم يتركه المحقق للخروج من حيثيات الاستدعاء، حين وجّه له السؤال التالي: أتنكر أنك كتبت فوق الجدران عبارة «تسقط الأوراق في فصل الخريف»؟
فأجابهم على السؤال ولم يقتنعوا، وقال سأغير الخريف إلى فصل آخر كالربيع أو الصيف، ولم يقتنعوا!
وفي قصة أخرى ستنشر في مجموعته القادمة بعنوان «عبد الله» يذهب محمد علوان إلى التركيز على رمزية المثقف وعلاقته التناقضية مع سطوة السلطة كمادة في القص من خلال مناخ «كفكاوي» فنتازي، يجيد الكاتب حبكته عبر وسيلته الفنية، حيث استُدعي المثقف/ القاص للتحقيق معه على خلفية اختياره لذلك الاسم تحديداً!
لكن القاص يشتغل في قصص عديدة على دمج سردية الحكاية مع حكائية الثقافة، حيث يبدع القاص حياكة شبكتها السردية وتوظيفها كمخيال يروم الجدل والإقناع بوجهة نظر معينة، وسنشير إلى اثنتين منها.
إحداهما عنون مجموعته الأولى باسمها «الخبز والصمت» وتنتمي لتيار الواقعية النقدية في حبكتها ورؤاها الدلالية، فيأخذ السارد من الداخل موقع الشخصية الرئيسي المعني بالحكي والتسريد، حيث تكون زاوية «التبيئير» في موقع الدرجة «صفراً» في معظم أجزاء الحكاية، مما يعمق مستويات التعبير عن الحالة السردية ودرجة انشداد القارئ إليها رغم غياب الحوارية عنها، فيما تنزاح مركزية «التبئير»عن موقعها الصفري، وتنفتح على وجهات النظر الأخرى، حين تحضر شخصية الأب والأم والصديق.
النص يرتكز جوهرياً على محرض فني يتوزع بين مفهوم «هِـبَة الخبز» المقترنة بسلب الحرية، وتجلياتها على مستوى مؤسسة العائلة وسلطة التقاليد الأبوية في مختلف تشكلاتها وبين مفهوم حرية الفرد وانفراده بقراره ورفضه للدخول في قيد مؤسسة عائلية أخرى.
لذلك يتبع السرد منحى منلوجياً داخلياً، يحرك السرّاد عبره وجهات نظره، ويرتبها لتوحي بشيء سيكون صادماً للسلطة الأبوية.
الأب يطرح على العائلة أمر زواج الابن الأكبر، وعليه وفق أقنوم العادات المرعية أن يوافق، ولكنه يوغل في الصمت محاوراً ذاته حول معنى وجدوى الزواج ومستذكراً حديث صديقه، الذي عبر عن رؤيته وموقفه من «المؤسسة الزوجية» بالرفض القاطع.
وهذا سؤال ثقافي بامتياز، ولكن الكاتب يحيله إلى سردية تستدعي القراءة والتأمل فيما يفضي إليه: «أيتزوج؟ ماذا يمكن أن يحدث؟ أن يتغير.. أن يتجدّد؟ أيضيف إلى وجوده كارتباط مزعج ارتباطاً آخر.. ما نوعيته؟ ما مدى استمراريته... وقال صديق آخر عاش لنفسه: لا تتزوج... فستفقد حريتك» (الخبز والصمت، ص 35).
فالحرية هنا لم تعد متمثلة في الحق في قول «لا»، ولكن في المعنى الأبعد للكلمة... وهو البحث عن الحرية أو الحفاظ على عفافها كما هي خارج القيود المؤسساتية.
يغادر المنزل، يغيب ليلة، وتجتاحه حمى التفكير التي تقوده إلى درجة عالية من التوتر، ثم يعود في اليوم التالي ليرى جلسة العائلة وهي بكاملها تفترش الأرض وعيونهم تتطلع إليه مضمرة إعجاباً لكنها تخرّ من الخوف راجعة إلى الأرض.
قال «لا»
فرد الأب عليه: «(لا) أتقولها وبكل وقاحة يا كلب؟» (نفس المصدر - ص36).
حاولت الأم التدخل، ولكن الأب وتعبيراً عن السلطة والاستبداد المضاعف ضد المرأة: «أنت من بينهم جميعاً ليس لك الحق في الحديث... الحديث لي أولاً وأخيراً».
لكن الابن السارد أصر على موقفه، رغم ما سيناله من تبعات جسام، وكأنه يستذكر قول أمل دنقل:
المجد للشيطان معبود الرياح
من قال «لا» في وجه من قالوا نعم..
من قال «لا»، فلم يمُتْ.. وظلّ روحاً أبديّة الألم!
أما القصة الثانية في هذا السياق فهي «معذرةً.. البث غير مباشر»، حيث يسرّب السارد رؤيته عبر مفارقات مشهدية متخيلة في بعدها الفنتازي، عبر وصفٍ لمباراة كرة القدم، يسجلها التلفاز «بالأبيض والأسود» لكي يبثها لاحقاً.
بين آلاف الحاضرين يفتح الجريدة لتزجية وقت ما قبل بدء الشوط الأول، فيلتقط بنبرة ساخرة عدة أخبار محلية تنطوي على درامية الواقع، ومنها استجداء شاعر لعشرين من أصدقائه لحضور أمسيته الشعرية، فلا يجيء منهم إلا عدد قليل، وغيرها من المفارقات.
تبدأ المباراة بصافرة من خارج الملعب، حيث غاب اللاعبون ووقف الحكم ومساعدوه في المركز، وبعدها يقومون بحمل الكرة باليد وإدخالها في المرمى، ليسجلوا هدفاً صفّقت له الجماهير بجنون.
وتستمر فنتازيا الحكم والجمهور حتى تنتهي المباراة بصافرة من خارج المكان أيضاً، فيرقص الحاضرون ويصفقون بعنف.
وحين رأى المذيع استمراء الجمهور لتلك اللعبة أعلن أن التلفاز سينقل المباراة القادمة حية على الهواء وبالألوان، لتسعد الجماهير العريضة خارج المكان بهذه اللعبة الساحرة!!
ليبسط سؤال «الصافرة من خارج الملعب» جناحيه على المكان كله!
... ... ...
(*) وسيتوقف نشر الحلقات المتصلة هنا حتى بعد العيد؛ لذا جرى التنويه