د. إبراهيم بن محمد الشتوي
اختار الكاتب في بناء كتابه - سيرته الذاتية عرض تجربته الإدارية أن يسير وفق الزمن التراتبي الذي يجعل حكاية السيرة تتوافق مع حدوثها في الحياة، وفي مراحل تطوره التاريخي، فبدأها من ولادته، مقيدًا بعض ما استقر من تأملاته في المرحلة الابتدائية إلى أن جرب السلطة للمرة الأولى حين عين مراقبًا في المدرسة حيث يمنح شيئًا من الصلاحيات يستطيع أن يمارس بها السلطة على زملائه.
في حين أن ذكرياته عن مرحلتي الثانوية والجامعة تمثلت بالسلبيات الإدارية حيث المحسوبيات، والتعامل مع الطلاب بناء على واقعهم الاجتماعي بعيدًا عن أدائهم في قاعات الدرس، أو مستواهم العلمي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تمثل بحديثه عن البيروقراطية المؤلمة التي لا يستدعيها العمل تدفع الناس دفعًا إلى الرشوة، والفساد لتجاوزها.
أما مرحلة الدراسات العليا فقد كانت مجالاً للتأمل في التطور الإداري في المؤسسة الأمريكية، فهو ينص على أن تجربته تلك «أوجدت لديه وعيًا إداريًا»، حيث كان هناك الحد الأدنى من الروتين. بينما جاءت تجربته برئاسة جمعية الطلاب العرب في أمريكا تجربة غنية، تمكن فيها من تغيير واقع الجمعية، والمنتسبين إليها من الاكتفاء بالشجب إلى التخلص من الخلافات التي تعصف بالجمعية، وتحديد رؤية تقوم عليها بعملها، مما انعكس بعد ذلك على حال الجمعية، فأصبحت أنشط جمعية طلابية في الجامعة.
الأمر اللافت للانتباه، أن ما يمكن أن يسمى بمرحلة التدريب قبل توليه أعمالاً جسيمة سواء على مستوى الجامعة، أو على المستوى الاجتماعي كان معظمه عملاً تأمليًا فيما يدور حوله، ومقارنة بين النماذج التي يراها أمامه، ولم يكن له تماس حقيقي مع الإدارة بوصفه ممارسًا لها إلا في رئاسته للجمعية التي كان العمل مرتكزًا فيها عليه وعلى أمينها. وهو ما يعني أن التدريب الحقيقي الذي مر به في الإدارة، ومكنه من صياغة نظرياته، وآرائه، واختبار ما كان قد درسه في الجامعة كان في الفترة التي قضاها ممارسًا للعمل الإداري أصالة عن نفسه، وليس بوصفه متدربًا.
وهنا يمكن القول إنه بدأ العمل الإداري مبكرًا، فإذا تجاوزنا مراحل الدراسة في الجامعة وما قبلها، واعتبرناه إرهاصات للتجربة الإدارية، فإن تجربته الحقيقية بدأت يوم كان وكيلاً للكلية ثم عميدًا، وهذا ما يمكن أن نعده بداية السيرة الإدارية التي يخط مراحلها هنا.
إذن بدأت السيرة الذاتية في عمله في الجامعة عميدًا، ثم تطورت في إدارته للسكة الحديد، وما قام به من أعمال تتجاوز الإدارة الروتينية، الأمر الذي يمثل نوعًا من تنامي الحدث السيري والإداري على حد سواء، تبع ذلك تطور في نوع الأعمال الإدارية التي يقوم بها، وتنامي لفعل القص السيري بتوليه حقيبة وزارة الكهرباء، وما تم فيها من أحداث مشوقة قامت على الصراع مع مجالس شركات الكهرباء، التي كان من الممكن أن يقف عند تفصيلاتها ليضفي على السيرة قدرًا كبيرًا من التشويق، ويظهر نفسه بمظهر المحارب الشجاع، إلا أنه مر عليها مرورًا سريعًا مكتفيًا بما يسمى بالقص الإجمالي أو التلخيص في عرض الأحداث.
ويمكن القول بأن الحدث الأبرز هو توطد صلته بأقطاب المؤسسة الإدارية في ذلك الوقت ابتداء بالملك خالد -رحمه الله-، ثم ولي العهد آنذاك الملك فهد فيما بعد، والملك عبد الله، والأمير سلطان، والأمير نايف، والملك سلمان أمير الرياض آنذاك. وهذا الحدث لم يلق عرضًا كافيًا من السارد بالرغم من أن الكاتب - غازي كان يدرك أهمية هذه الصلة بمسيرته الإدارية، وكان يحرص على أن يوثقها، وينميها عبر خطوات إجرائية دقيقة، فالحديث عنها جاء عرضًا في تضاعيف حديثه عن مسيرته أجمع، بالرغم من أنه كان يشير في مواضع متفرقة إلى أنه لم يتمكن من أن يحقق هذا النجاح إلا بمساندة الملك خالد وولي العهد آنذاك الأمير فهد، وأنه أيضًا كان يستشير الملك سلمان أمير الرياض فيما يقوم به من أعمال.
وبناءً على هذا التنامي في الصلة مع «القصر» - إن صح التعبير- ازداد دوره الإداري، وتنامت مسيرته، التي يحكيها في السيرة، حتى بلغت الذروة حين تولى الحقيبة التي تشغل ذهن ولي العهد لدرجة أنه يفكر في أن يتولاها بنفسه، لأنه لم يجد من يمكن أن يعمل بها، وقد وصفها بأنها الحقيبة التي «لم ينجح بها أحد»، وهذه ثقة كبيرة من ولي العهد حين يراه أهلاً لئن يحل محله في الحقيبة المستعصية التي انتدب لها الأكفاء من الإداريين. وهو ما يعني بدوره أن الصلة بالقصر قد بلغت ذروتها، ونتيجة له فقد بلغ هو ذروة نجاحه وتميزه.
هذه الصلة التبادلية بين «القصر» والنجاح في مسيرة العمل الإداري، كانت واضحة عند الكاتب، بدليل أنه خشي أن يكون إعفاؤه من الوزارة انعكاسًا لانحدار مكانته عند الملك فهد -رحمه الله-، الأمر الذي بدا في البدائل التي قلبها ساعة التفكير عن عمل يشغله بعد الخروج من الوزارة، وفي امتنانه الكبير للملك فهد حين اتصل به يخبره أنه يريده في مهمة بعد العودة من السفر، مما عنى له أن الملك يكن له مكانة خاصة، وكان حذرًا في المكان الذي قبل السفارة فيه خشية أن يقع فيما وقع به من قبل.
انتهت السيرة الإدارية عند نهاية سفارته في البحرين، وتوجيهه إلى مكان جديد أكثر حساسية مما كان عليه من قبل، وهو ما يعني أنه قد استعاد ما كان عليه من قبل، وأن مرحلة الركود قد ولت، وهذا ما جعله ينهي السيرة الإدارية هنا لانتهاء الحقبة السابقة التي مثلت فيها الأحداث بداية وتطور ثم خفوت، الأمر الذي يعني أن المرحلة الجديدة تستحق حكاية جديدة أخرى تبدأ مع قبوله التكليف الجديد من الملك فهد بالقول: «أنا جندي من جنودك يعمل على الجبهة التي تختارها»، وهو يختلف عن الرد الذي أجاب به العرض السابق على تولي السفارة في عاصمة كبيرة، إِذ قال: «ألم أشرب الكأس حتى الثمالة»؟!
ولأن المرحلة الأولى انتهت، وبدت تباشير مرحلة جديدة، كان عليه أن ينهي السيرة الذاتية ليبدأ سيرة ذاتية أخرى توازي السيرة الإدارية الجديدة التي بدأ إحساسه بها باللغة التي استعملها في التعاطي مع التكليف الجديد، وأشير إليها من قبل، وعلى هذا يصبح بناء النص الإداري يشبه النص الروائي السيري الذي يقوم على تمهيد ثم تنامي الأحداث حتى تصل الذروة، ينتهي بالحل والخاتمة، وهذا يعطي السيرتين الإدارية والنصية نوعًا من التوازي، ويدفعنا إلى القول بإن إحداهما قد دفعت لتناسب الثانية، وهو ما يفتح مجالاً جديدًا للقول.