منذ أن أذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق في غلالة سمراء من شفق الغروب، والتيه يسكن ذلك الزمن الذي كان يبدو وكأنه من عبث الأقدار، ففي ذلك الزقاق تحول العدم إلى حياة لا تشبه الحياة، والفقراء يشيعون أحلامهم على صهوة أمل متلاشٍ، وبينهم من انزلق في شهوة ظلامية، وبينهم من أرّقه شظف العيش، وهناك من اندفع وراء حب جنوني ساذج أدى به إلى موت محتم كما شاء نجيب محفوظ في تلك السردية الرائعة.
تلك الأحداث الزمنية الواقعة في فترة الأربعينيات تجعل الإنسان يتفكر في المفارقات العجيبة التي جعلت من الحرب قوتاً يتغذى من الفقراء، ويتربح منه ضعفاء النفوس ربحاً فوق العادة، وتغيب في أصيل يوم تاريخي بطلة الرواية لتنزلق في منحدر الشهوات البائدة، إذ تربّص بها شيطان المال، فكان الجسد الأسمر أول ضحية من ضحاياه، فصار الجحيم مألوفاً للبعض، والمبادئ المقلوبة لا تثير الاشمئزاز في نفس أحد، مما يجعل السؤال الأهم هو:
هل يتساوى كل شيء في العدم للحد الذي يجعلنا لا نبالي بالمبادئ؟!
إنّ الحياة التي صوّرها الكاتب الكبير نجيب محفوظ في ذلك الزقاق، تعني أن يثمل الإنسان بوجوده بين المتناقضات، فتتهاوى القيم، ويصبح الحزن سيداً يحرك الدمى على المسرح بخيوطه الثلاثية، بينما الكل يريد أن يعيش، والحقيقة أن الجميع سوف يسحق يوماً في بؤرة من بؤر ذلك الزمن!
وبعيداً عن اللغة، وأسلوب الروائي العظيم الذي لا يختلف عليه اثنان من محبي الأدب العربي، إلا أن تلك الرواية «زقاق المدق» تقدم درساً هاماً في الحياة حين تطحن إنسانا ما بين رحى المتناقضات، لذلك هي تعتبر واحدة من أهم أعمال نجيب محفوظ التي تحولت إلى أفلام سينمائية، على الرغم من أنها لم تنل شهرة ثلاثيته التي لحقتها بعدة أعوام.
- عادل الدوسري