دريد بن القمة ،أديب أريب ،معتز بذاته وبنفسه ، فهو سليل عائلة كريمة، وهبت نفسها للقرآن علما وتعلما وتعليما،كان أجداده حمائم المساجد ،وكان التقى والزهد والصلاح أشهر ما عرف عنهم وعهد منهم . نشأ دريد بين أترابه وهو مولع بالعربية وعلومها ،ساعده على ذلك نشأته المحافظة في بيت كان غناؤه القرآن ،ونثره كلام سيد الأنام. كل ذلك اهّل دريدا لأن يصبح خطيب مجتمعه وناطقه الرسمي، به يُبدأ الخبر، صياغة وصناعة وإلقاء. ولأنه موهوب قياسا بالمصنوعين فقد كان حضوره علامة فارقة في أي محفل. في يوم من الأيام عزم أهل ناحيته على إقامة سباق هجنهم السنوي، وكالعادة قدمت الدعوات إلى شيوخ العشائر المجاورة ،لحضور السباق وحضور الحفل الذي يتكرر عمله مع كل مناسبة تجمع الشيوخ والذوات. كانت القبيلة وما زالت حاضرة في وجدان دريد ،كيف لا وهو ما فتئ يتغني بها وبأمجادها ورموزها ،فهي هويته التي يعتز بها وهي أسمى القبائل حسبا ونسبا وقداسة ،يكفيها فخرا، أنها القبيلة الوحيدة التي يؤمها المصلون في تلك الهجرة كونها تحتضن المسجد الوحيد فى تلك النواحي، الذي تقام فيه الصلوات والدعوات وحلق الذكر، ناهيك عن تاريخها الذي يمتد لمئات السنين كانت خلالها وما زالت القلب النابض لكل النواحي المجاورة . أعدت ترتيبات الحفل ولم يخطر دريد ،كان بعيدا عن التحضيرات ،مغيبا عن الخبر، دعي في اللحظة الأخيرة ليكون على حدود مضارب القبيلة ليكون في استقبال الضيوف، دلف الشيوخ إلى مقر الاحتفال، وهناك بدأ الحفل ولكن بوجوه أخرى لم يألفها متذوقو الكلم وصناع البيان . أسف دريد أنه لم يسمح له باعتلاء منبر القبيلة ولم يلق قصيدته ،ولم يشنف آذان الحضور ببيانه وحسن إلقائه في المقابل كان فارس المنبر الحالي ،جديدا في حضوره على المستمعين والأجواء والمناسبة ،كان النص الذي يلقيه غاية في البساطة والمباشرة، كان لسانه غير قادر على الوفاء بأبسط قواعد البصريين والكوفيين الذين قعّدوا علوم العربية وصنفوها فى دساتير تحرم على المصنوعين التلاعب بتلك اللغة وألفاظها، ومع ذلك فقد دفع به بديلا لدريد، ليكون خطيب القوم ولسان حالهم ومقالهم أما دريد، فقد أيقن أن الزمن ليس زمنه، وأن الذائقة لم تعد تحتكم إلى قواعد اللغة وسحر البيان، وأن العصامية حورت مفاهيمها فأصبحت عصابية تجعل الموصوف يسبق الصفة، وتقدم المؤخر ليصبح مبتدأ، وتؤخر المبتدأ ليصبح حسب ما قبله وما يريده الراسخون فيلجهل بحكم السيادة والصلف والنفاذ . العزاء الوحيد لدريد الذي فقد القمة أنه ما زال الأول بمقاييس فحول اللغة الأفذاذ العارفين بأسرارها ،ويوما ما سيعيدونه إلى المنبر ولكن في مناسبة أجل وأسمى وأعظم .
- علي المطوع