ذلك الفرنسي الذي تنبأ بالثورة مبكراً وهو يكرهها بظهر الغيب بحيث يعلم ما ستؤول إليه الأمور لأنه يكره الجمهوريات ويوسمها بحكم الرعاع! ويرى أن الشعب لا يجب أن يحكم حتى لا تعم الفوضى في بلد يسير آمناً نحو التطور! هكذا ينظر فولتير إلى نظام الحكم في أوروبا وما يجب أن يكون عليه بغض النظر عن مصلحته في ذلك! وعلى أن الثورة الفرنسية كانت تدين له بالفضل الكبير لأفكاره التي أصبحت نبراساً لنابليون بونابرت إلا أنه من المبغضين لها ولأصحابها!
وهو أديب وضالع في الأدب بكل أنواعه من شعر وقصة ومسرح ومقالة وصاحب فلسفة سياسية وإصلاحية له في كل ميادين الفكر والعمل بصمة ومؤلَف لا تستغني عنه أوروبا بأكملها في حياتها العلمية والعملية، بل تعدى ذلك إلى أمريكا وغيرها! وعلى ذلك كله فهو من أثرياء فرنسا الكبار وأغنياء أغنيائها فاحشي الثراء!
كان فولتير - وهو من طبقة السندان! كما يقول عن نفسه حين ولد، أي طبقة الفقراء البرجوازية لأنه يقول: ( في فرنسا إما أن تكون سنداناً أو مطرقة وأنا كنت سنداناً )! ولكنّه بالتأكيد أصبح مطرقة فيما بعد وبقوة ! - كان يحيا حياة ترفة فلم يعرف الفقر إلا وهو طفل ولذلك يسميه ول ديورانت (الإقطاعي الطيب) وطيبته تلك لم تأتِ من تربيته ولكن من ذكائه وثقافته وأدبه الذي سخّر نفسه له حتى قال عنه سكرتيره كولليني (..... لقد كان ضنيناً بوقته فقط) وهذه علامة على قراءاته المستمرة وإنتاجه الغزير من التأليف في شتّى المعارف كما عُرف عنه! فله في السياسة والدين والاقتصاد والفلسفة والتاريخ والأدب والشعر وجه وألف وجه وبصراحة ممزوجة بأريحية يستهويك أسلوبه المرن والسهل أن تقرأ له كثيراً دون ملل أو كلل! ولك في (رسائل فلسفية) ما تطمئن به نفسك من أسلوبه وطريقته الممتعة! فما إن يكتب كتابه وينتهي منه حتى تتلقفه أوروبا بأكملها بفرحة لا تعادلها فرحة سوى فرحة انتصار الجيش في المعركة حتى بات ملوك أوروبا يطلبون منه أن يكتب سيرهم الخاصة وسير آبائهم الملكية كملكة روسيا اليزا فيتا حين طلبت منه أن يكتب سيرة أبيها بطرس الأكبر. ولا أدلّ من ذلك وأعظمه وإن كان مبالغاً فيه من قول فردريك ملك بروسيا حين قال (وأما أنا فيعزيني أنني عشت في عصر فولتير ، وحسبي هذا)؟ ومع ذلك نجد أن هناك ممالك شبه مغلقة في وجه التنوير والإصلاح كإسبانيا التي يعد فيها فولتير أحد الشياطين التي تُغلق حدودها في وجه كتبه التي تعتبرها من الهرطقة وهذه قلّة قليلة! لأن مسألة الإصلاح عند فولتير تبدأ بالاعتقاد الديني والكنيسة وخرافاتها وأساطير العصور الوسطى وسيطرة الكهنة وتنتهي بالقوانين المدنية والدستور ومع ذلك كله تجاذبته تناقضات حين تمعن في سيرته وكتبه أحياناً حسب أهوائه ومصالحه وأحياناً الخوف من السلطة الدينية لذلك كان لا يخلو من الدعابة حين ينتقد ثم يتبرأ مما كتب خوفاً من السجن ومن تجريده من الألقاب فيقول لدالامبير (حالما يبدو أدنى خطر تفضل بإبلاغي لكي أنكر كتاباتي في الصحف العامة بما عهد فيّ من صراحة وبراءة) ولكنّه لا شك كان مخلصاً للمسيحية الأوروبية حين أخذ يناشد ملوك أوروبا بإعلان الحرب على العثمانيين الذين يصفهم دائماً بالهمج وينادي بحرب صليبية جديدة مع تسامحه الديني وكرهه للحروب كما يصرّح بذلك وهو دائماً يضرب بدستور إنجلترا المثل الأعلى في جميعواحي الحياة ومنها السماح بالجهر بأي دين دون اضطهاد أو إيذاء وهذه جسارة منه على بني قومه أن يمتدح عدوّهم التقليدي ولا يقوم بذلك إلا من أُتي نوعاً من الجرأة والصراحة كفولتير!
- زياد السبيت