د. عبدالحق عزوزي
حلّت بنا الذكرى التاسعة لاندلاع الأزمة المالية العالمية، ولطالما تأثر الاقتصاد العالمي من الأزمات المالية لكن تلك التي اندلعت سنة 2008 كانت الأسوأ منذ كساد 1929، وبالطبع كلاهما انطلق من الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد رأس الاقتصاد العالمي وأساسه رغم منافسة اقتصادات أخرى لها مثل الصين واليابان والاتحاد الأوروبي. وكانت شرارتها طبعاً أزمة قروض الرهن العقاري بالولايات المتحدة، ثم انتقلت إلى البورصات والمصارف وشركات التأمين.
في بداية سبتمبر 2008، تحوّلت أزمة الرهون العقارية الأمريكية إلى أزمة بنكية، وانهار البنك الأمريكي الشهير Lehman Brothers ويرجع سبب هذا الفشل بالطبع إلى الاستهلاك القوي للأصول الموجودة في محافظ الرهون العقارية. وبانهيار هذا البنك العملاق وبتأثير الدومينو، انخفضت أعمال البنوك الأخرى مؤدية إلى انخفاض حاد في المراكز المالية الدولية الرئيسية. عبرت الأزمة، بشكل بطيء لكن بشيء أكيد، من الولايات المتحدة الأمريكية المحيط الأطلسي لتصل إلى البنوك الأوروبية الكبرى. فكل البنوك الكبرى التي راهنت على محافظ الديون ذات المخاطر، سجلت خسارات ومشاكل في السيولة وعدم القدرة على السداد.
ونتذكّر هنا قصة برنارد مادوف صاحب أكبر عملية نصب في التاريخ، الذي تم اعتقاله في 11 دجنبر من عام 2008 عن طريق مكتب التحقيقات الفدرالي بناءً على بلاغ من ابنيه خوفاً من أن يتابعا هما بنفسيهما إذا قاما بتغطية الحقيقة بعد اكتشافها. وتعتبر عملية النصب تلك التي تدعى بسلسلة بونزي، عملية تم فيها النصب على ما يزيد عن 50 مليار دولار وجرت على عقود من الزمن، ولا أعرف في التاريخ البشري أكبر عملية نصب مثل هاته، حيث تمت على يد شخص واحد، وكتم احتيالاته حتى عن زوجته ناهيك عن ولديه الذين كانا يشتغلان عنده. وقد كان ممنوعاً على الولدين الوصول إلى الطابق 17 هذا الطابق الذي كانت تشتغل فيه شياطين الإنس الذين يزورون ويسولون ويملون لكبار أغنياء العالم درب الاغتناء السريع والآمن. وتحكي لنا الوقائع أناساً كانوا قد وضعوا في حسابات برنارد مادوف كل ما يملكون وبملايين الدولارات ليجدوا أنفسهم ذات يوم بدون دولار واحد، ومن هؤلاء من انتحر...
برنارد مادوف كان أستاذاً بسيطاً للسباحة قبل أن ينشئ صندوقاً للاستثمار بـ 5000 دولار أمريكي. عرف هذا الرجل بذكائه وبعبقريته وبسرعة بديهته إلى أن ثبّت رجليه في عالم المال، ووصل به ذكاؤه أن ترأس الناسداك (Nasdak) وهي بورصة القيم التكنولوجية وكان ذلك من سنة 1990 إلى سنة 1991. وبرنارد مادوف هو أيضاً من النخبة اليهودية النيويوركية الملهمين بالذكاء المالي أينما حلوا وارتحلوا... وهذا يذكّرني لما كنت أحضر دكتورتي في جامعة تولوز بفرنسا وكنت من بين المسؤولين على أحد المراكز البحثية آنذاك، وكنا في بعض لقاءاتنا نتغذى أو نتعشى في أحد المطاعم في المدينة، وكل مرة يقولون لنا إن صاحب هذا المطعم يهودي إلى أن اكتشفت أن أصحاب كل المطاعم الفخمة في المدينة هم من أصول يهودية...
كيف كان يحتال برنارد مادوف على ضحاياه؟ المسألة بسيطة جداً. كان يأخذ من أموال المستثمرين الجدد ليعطي منها إلى المستثمرين القدامى، وبذلك كان يعطي للجميع انطباع النجاح الدائم والأكيد والسريع، والاستثنائي في عالم مالي يطبعه المجهول واللا يقين والغموض... وبناءً على ذلك كان هذا المحتال يجذب باستمرار العديد من المستثمرين الجدد، وكان هؤلاء المساكين الجدد يجهلون أن هذا الرجل يقوم بتبذير الأصول التي يقومون بإيداعها عنده، وعندما نشبت أزمة 2008 حاول البعض سحب إيداعاتهم وممتلكاتهم ولكن هيهات هيهات.... يكتشف المقرّبون من برنارد مادوف الفضيحة، يتم التواصل مع السلطات، فيتم الاعتقال والمحاكمات المتتالية ونشاهد خراب بيوتات عن بكرة أبيها، ليتبع ذلك تعجب واستغراب في كل أنحاء العالم.
من يقرأ عن هاته الحادثة يبقى مبهوراً من كثرة الضحايا، ومن تلك الأسماء والأبناك والمؤسسات العريقة التي راحت ضحية شخص واحد، أذكر على سبيل المثال مؤسسة جائزة نوبل إيلي ويسل، السينمائي ستيفن سبيلبرغ، البنك الإسباني (الذي خسر وحده ما يزيد عن ملياري دولار) واللائحة طويلة.
ونتساءل هنا: أين كانت سلطة تنظيم البورصة الأمريكية؟ صحيح أنها حققت في أعمال برنارد مادوف ثلاث مرات ولكنها كانت كل مرة ترجع بخفي حنين ولو وقع هذا الأمر في أحد بلداننا العربية لاتهمت الدولة مباشرة بالتواطؤ، بل ولفرضت عليها عقوبات دولية...