زكية إبراهيم الحجي
«إن التفكير مستحيل من دون صور». عبارة من عبارات أرسطو المتعددة، تنبأ من خلالها بأن هناك تغييرًا جذريًّا من الكلمة المدونة إلى الصورة المشاهَدة. وبالفعل، نحن نعيش عصر الصورة الحاضرة بقوة في جميع وسائل الإعلام؛ ما جعلها لغة جديدة وخطابًا حديثًا، له صفة المفاجأة والمباغتة والسرعة وقوة التأثيرات المصاحبة التي تفتقدها الكلمة في أحيان كثيرة.
الصورة الإعلامية بُعد أيقوني للواقع الذي يستحيل داخل الشاشة إلى بؤرة محسوسة، لها قوة جاذبية لأحاسيس المشاهد من خلال وضعه أمام فيض من مضامين موجهة ومنضوية تحت ماهية الصورة.. ليبقى المشاهد إزاء كم هائل من معانٍ متداخلة في الوقت ذاته.. إنها متاهة تمارس تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة.. البعيدة والقريبة الدالة على أمر ما ونقيضه.. التوليف المزور والحقائق الواقعية أو التزام الحياد.. لقد باتت سطوة الصورة إعلاميًّا تحمل الشيء ونقيضه؛ فنسق الهيمنة يستبطن في داخله نسق آخر للرفض.
ولأننا نعيش عصر الحتمية التكنولوجية فقد أصبحت وسائل الإعلام نافذة، نرى من خلالها العالم وما يدور فيه بكبسة زر، ولكن تبقى هناك مسافة بين ما نشاهده وما لا نشاهده حول حقيقة ما يحدث في عالم يضج بصراعات وعمليات إرهابية وغزو فكري وتشريد وتهجير وقتل ودمار.. فالعالم الذي نشاهده في الصور قد يكون في غالبيته هو ما ترغب في تصويره لنا الكثير من وسائل الإعلام العالمية بقنواتها المختلفة، ويبقى هناك عالم آخر خارج إطار الصورة، يحكمه أسلوب التكتم عبر حزمة إملاءات غير مباشرة، ترتبط بالمعطيات والسياسات الدولية.
فإذا كان الخطاب الإعلامي صنفًا من تلك الخطابات التي تتغلغل في أعماق الحياة الاجتماعية والاقتصادية.. السياسية والتنموية.. مؤثرة ومتأثرة، ومقامة من المقامات التي لها السيادة في سلم جميع أنواع الخطابات الأخرى.. فإن الصور المصاحبة، وتحديدًا الصور التي تُعرض على الشاشة التلفزيونية، هي أداة الإثارة وتكثيف التبليغ والتفاعل مع الحدث مهما كان نوعه أو موقعه.
وإذا كانت اللغة تصف وتسرد بواسطة الكلمات والجُمل، حسبما يقتضيه النسق اللغوي، فإن الصورة بما تحويه من مكونات ومؤثرات تسرد بفضائها البصري دلالات الأحداث والوقائع، وتخاطب المتلقي بطريقة تختلف عما تخاطبه به اللغة، بل تتجاوز ذلك كله إلى الأبعاد الضمنية للخطاب أو الرسالة الإعلامية الموجهة.
الصورة، وخصوصًا الصورة التلفزيونية، أصبحت تقوم من الخطاب الإعلامي المعاصر مقام الكلمة في الخطاب التقليدي، مع فارق يكمن في تعميم مضمونها مما لم تستطعه الكلمة في أوج استخدمها إذاعيًّا قبل عقود مضت.