د. محمد بن إبراهيم الملحم
لست متحيزاً إلى الاعتماد الكبير على الاختبارات الدولية مثل تيمز وبيرلز، لأجل الحكم على الجودة النوعية للتعليم في أي دولة، لكنه اتجاه ملحوظ في أدبيات هذا الموضوع لذا تعرضت له، لاسيما أن كثيراً من الباحثين يرونه مؤشراً قوياً لتفوق التعليم في الدول، وهو صحيح في حالة خلو المشاركة من التحيز والتلوين وهو ما تفعله الدول المتقدمة الملتزمة بأسس القياس، أما بعض الدول التي تحرص على إحراز النتائج المتقدمة بصناعة أبطال لهذه المنافسات، فتعتني بتدريب نخبة من طلابها ليتمكنوا من «رفع اسم بلادهم» فهي لا تفعل سوى خداع نفسها، وهذا النوع من المشاركة يضرها إذ تفقد فرصتها لتوظيف النتائج للوقوف على موقعها الحقيقي. وهناك إشكالية أن التحدي الذي تأتي به مثل هذه الاختبارات لا يقوى عليه سوى طلاب تمكنوا من العلم من خلال العملية الاختبارية المتكررة، مما يعني أن النظام يجب أن يتصف بهذه الهوية، وهو ما اتسمت به الدول الآسيوية التي تكرر تقدمها في هذه الاختبارات (وهناك نقد داخلي لديها للاتجاه نحو التعلم القائم على التمكن من المفاهيم لا على المهارات فقط)، ولذلك فإن النظم التعليمية التي تطمح للتعلُّم النشط ومهارات الحياة قد لا تكون هذه الاختبارات منصفة لقياسها.
ولذلك فضلت عليها في مستهل هذه السلسلة المعايير الأخرى، للحكم على الجودة النوعية للتعليم، وهي مؤشرات التحضر والثقافة والابتكار في ذلك البلد، وعلى الرغم من أن قياس بعضها ليس يسيراً لكن لا شك أن من يطمح بصدق إلى تحقيق نتائج حقيقية، سيعرف كيف يتصرف ويقدم قياسات مستمرة لمثل هذه المعايير، ولذلك فإنّ هذه دعوة مفتوحة إلى المجلس الاقتصادي الأعلى لدينا لتبني مؤشرات من هذا النوع، وربطها بخطط ومبادرات تطوير التعليم خلال السنوات القادمة. إن الاجتهاد المستمر لتحقيق إنجاز في مساهمة التعليم في التنمية سيكون له أثره لو بُني على أساس علمي رصين، وتناولته مؤسسات مستقرة لها صفة الديمومة كالمجلس الأعلى ولجانه، بدلاً من الوزارة المتسمة بالتغير والتلون بتوجهات من يديرونها من حقبة إلى حقبة، وفوق هذا إرهاقها المستمر بمشكلات الميدان اللوجستية الكثيفة والعنيفة أحياناً، مما لا يدع فرصة لمتخذي القرار بها لرفع رؤوسهم للاستراتيجيات وإن فعلوا فلا يملكون زمامها لأمد طويل.
أين الطريق؟
لا شك أنّ الوصول إلى الجودة النوعية للتعليم هو أقصر طريق لتنمية الاقتصاد من خلال التعليم، ولكنه هدف عزيز المنال يحتاج إلى شروط ومحددات يصعب على كثير من الدول توفيرها، وهو ما استوعبته مبكراً أغلب دول العالم الأول، وسعت إلى تحقيقه منذ توديعها لمرحلة الرعي والزراعة ودخولها الثورة الصناعية، حيث أصبحت المدارس والتعليم محوراً أساسياً لخطط التنمية، كما توالت أساليب تطوير التعليم نوعياً وحتى الابتكارات في الطرائق والنظريات طوال القرن المنصرم، مما قدم لغيرها من دول العالم والتي نحن منها طبقاً جاهزاً لا تحتاج معه إلى كثير من الإبداع سوى التطبيق السديد وتوفير الشروط والبيئة الصحيحة. سوف استعرض عدد من النقاط التي أعتقد أنها أولويات للتعليم السعودي لكي يضع طرف قدمه على هذا الطريق.