د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
* * في متاهات الأيام محطاتٌ للسفر والسهر والهروب؛ لا بحَرفية مقتضياتها، بل بمؤديات أخيلتها فنرتحل قاعدين ونسهر نائمين ونهرب مستقرين حين تحاصرنا فوضى الموانئ وأرصفة الحيرة ومعالم الخوف والحيف، ولا فرق هنا أين تقطن ولا إلى أين تصلي أو تولي؛ فالإبحارُ لا يتطلب مركبات ولا يستلزم تأشيرات.
* * نحتاج إلى هذا الغياب الاختياري أيًا تكن هُوياتنا وانتماءاتُنا وخصوصياتنا، ولن نعجب بعدُ حين نرى من اعتزل الحياة والأحياء أو بعضًا منهما بعد أن يجرب لذة النأي عن التفاصيل اليومية المملة حينًا والمقلقة حينًا والمؤذية كثيرًا أو قليلًا، وربما كان السفر إلى مجاهل الأمس أو إلى منافي الشمس مؤذنًا بأفياءٍ لا يعكر صفوها خبرٌ أو خبير أو تاجرٌ أو أجير أو محارب أو أسير.
* * ليس مللًا من العيش ولا كللًا بسببه، بل تكثفُ الشعور بعدم الجدوى وبعتمة الأجواء؛ لا تفتأُ تُذكّر السعيدَ بالأسى والصحيح بالمرض والواعي بالعيّ والمستقيم بالمعوج والصادق بالتكاذيب والعالِم بالتخاريف والتهاريف، وأنّى لأيٍ أن يغادر دنيا الناس إلا برِتاجٍ مصمتٍ دون عازف قلمٍ أو نغمٍ أو ألم.
(2)
* * من نواتج هجْر» الآن» استعادةُ الذاكرةِ التأريخية القريبة المشابهة لما نعيشه أو بالأفصح نعشى به؛ فجيلنا فتح ذهنه على هزيمة حرب الأيام الستة 1967م، ولا يدري صاحبكم - وهو لم يعِ الحدثَ في حينه - لِم ينفقُ وقتًا غير قصير في مشاهدة الأفلام التوثيقية عن إرهاصات النكبة الأولى 1948م وهذه الثانية، وصراعات السلطة بين نجيب وعبدالناصر، ومآسي شمس بدران وعبدالحكيم عامر وصلاح نصر، وهل مات المشير منتحرًا أم منحورًا، وأسرار وأسوار التكميم والتعتيم والظلم والظلام، وأين تتجلّى حاجة النظام وما حجم حرية الكلام؟ واستفهامات تبتدئُ فلا تنتهي عن حقبةٍ لو قُرئت بإنصاف وحوسبت بعقل وقُصد منها الاستهداء والاستفتاء لربما وُقينا تبعاتها الكارثية.
* * ولعل من المفارقات أن إعلام يهود - بأوامر صارمة - أخفى انتصاراته المدوِّية كي يواصل إسقاط سيناء والضفة والقدس والجولان دون ضجيج قد يأذن بتدخل دولي، في حين كان الإعلام العربي يثرثر عن سحق دولة يهود وتدمير مطاراتهم وإسقاط المئات من طائراتهم، مع أن سلاحه الجوي لم يتجاوز مئتين وعشرين طائرة احتُفظ بأقلها تحسبًا لأي غزو مفاجئٍ، ودُمرت على الأرض لا الجو عشرات الطائرات العربية.
* * الهزيمة ليست عارًا لو تلاها إصرار وانتصار، وإذ جاءت النكبة الثالثة 1973م فُتحت الأبواب للمساومة والاعترافات المتبادلة، و»ترقى العار - كما قال البردُّوني - من بيعٍ إلى بيعٍ بلا ثمنِ، ومن مستعمرٍ غازٍ إلى مستعمرٍ وطني».
* * الأمر هنا معنيٌ بالإعلام؛ فما كان دورُه هامشيًا ولن يكون، ولو صدق قولًا لما زلَّ غيره فعلًا، ولو تجاوز دوره الإخباري المستلَب لربما صنع تغييرًا أنطق مكلومي الأمس وانتصف لمظلومي اليوم.
(3)
* * الوعي صناعةٌ ثقافية.