د.عبد الرحمن الحبيب
شابة ترمي نفسها من الدور الرابع.. أب يسلخ رأس ابنه لأنه رسب بالامتحان.. أخبار خطف وقتل.. ضحايا كوارث طبيعية.. معلومات فائضة عن مسببات السرطان في الغذاء يليها معلومات مناقضة.. إفلاس أكبر شركة في البلد.. انهيار متوقع لسوق الأسهم.. ركود اقتصادي محتمل..
هل أنت فعلاً بحاجة لهذه المعلومات والأخبار، رغم أنه يقال «المعلومات قوة»؟ هل وصل بنا فائض الوقت والتركيز أن نقرأ يومياً معلومات تفصيلية كترتيب الجودة لعشرات الأصناف من المياه والقهوة والعصائر؟ ما المفيد في معرفة تفاصيل الحوادث أو الكوارث الطبيعية يومياً؟ «المعلومات تزيد والمعرفة تقل» كما يقول جاك ديريدا.. ربما تلك مبالغة، لكن من الواضح أن كثرة المعلومات لا يصاحبها إلا معرفة قليلة وربما غير نافعة عملياً، يقابلها وقت ثمين يضيع من حياتنا.
لكن لماذا نحن شغوفون بالأخبار؟ «لأن الأخبار للعقل مثل السكر للجسم: شهية، سهلة الهضم، ومدمرة على المدى الطويل». كما يقول الكاتب السويسري رولف دوبيلي وهو مفكر إداري وروائي، نال شهرة عالمية واسعة بسبب كتابه «The art of thinking clearly» (فن التفكير بوضوح)..
قام دوبيلي بتجربة غريبة مثيرة، قد يعدها بعضنا ضرباً من الجنون.. حيث توقف عن قراءة وسماع الأخبار قبل ثلاث سنوات من تأليف كتابه.. يقول في المقال الأخير من كتابه: ألغيت الصحف والمجلات، أغلقت التلفزيون والراديو، وإعلانات الأخبار من الآيفون. لم ألمس أية صحيفة تعرض علي، والتفت في الاتجاه الآخر عندما تقدم الصحف في الطائرة. في الحقيقة، الأسابيع الأولى كانت صعبة.. صعبة جدًا..
كنت باستمرار خائفاً من أن أفقد شيئًا ما، لكن بعد مدة حصلت على نظرة جديدة للحياة. النتيجة بعد ثلاث سنوات: أفكار واضحة، بصيرة أكثر قيمة، قرارات أفضل، ومزيد كبير من الوقت. إنما الأفضل أنني لم أفقد شيئاً مهماً. شبكة علاقاتي الاجتماعية - ليس الفيسبوك، بل تلك الموجودة في أرض الواقع المتكونة من لحم ودم من الأصدقاء والمعارف - عملت مثل فلتر للأخبار وحافظت علي متواصلاً ومتابعاً لما حولي.
هناك العديد من الأسباب التي تجعل للأخبار أرضية عريضة في حياتنا، وهذه أهم ثلاثة منها. الأول أن مخ الإنسان يتفاعل بشكل غير متناسب مع الأنواع المختلفة من المعلومات. التفاصيل الفاضحة، الصادمة، المستندة على الناس، العالية الصوت، السريعة التغير كلها تحفزنا، بينما تلك الموجزة، العميقة، المركبة، غير المجهزة لا نتحمس لها. منتجو الأخبار يركزون على ذلك.. فمن الوقائع يلتقطون القصص، يبهرجون الصور ويثيرون مشاعرنا كي يلفتوا انتباهنا. تذكَّر النموذج التجاري للمعلنين، إذ يشترون حيزاً من الوقت في دائرة الأخبار على أساس أن إعلانهم التجاري سوف يُرى. لذا، فإن الفصيح، المركب، المختصر، العميق يجب أن يُقصى بشكل منهجي، حتى لو كانت القصة التي تم إقصاؤها أكثر اتصالاً بحياتنا ولفهمنا للعالم. ونتيجة لهذا النمط من استهلاك الأخبار، نحن نمشي عبر خريطة عقلية مشوهة للمخاطر والتهديدات التي فعلاً تعترضنا.
الثاني، أغلب الأخبار - أو كلها - التي تصلك من الإعلام غير متصلة بحياتك. خلال اثني عشر شهرا الأخيرة، من المحتمل أنك استهلكت عشرة آلاف قصة خبرية، بمعدل ثلاثين خبراً في اليوم.. كُن صادقاً وأميناً مع نفسك - يقول دوبيلي - ضع عنواناً واحداً من هذه الأخبار، واحداً فقط، جعلك تتخذ قراراً أفضل لحياتك، أو لمهنتك، أو لتجارتك، بالمقارنة فيما لو لم تسمع تلك الأخبار. لا يوجد شخص سألته قد تمكن من تسمية أكثر من قصتين خبريتين مفيدة من بين عشرة آلاف قصة. ومع ذلك، فإن وكالات الأخبار ومنظموها يجزمون ويؤكدون لك أن معلوماتهم وأخبارهم تعطيك فرصة إيجابية للمنافسة في الأعمال والحياة. الكثيرون يقعون في الفخ، فاستهلاك الأخبار بهذه الطريقة يمثل فرصة سلبية للمنافسة. لو كانت الأخبار تساعد الناس على المنافسة لكان الصحفيون في قمة هرم الرواتب، ولكنهم ليسوا كذلك بل على العكس.
الثالث، الأخبار مضيعة للوقت، يقول دوبيلي. الإنسان العادي يبدد معدل نصف يوم في الأسبوع في قراءة الشؤون الحالية. على المستوى العالمي، هذه خسارة هائلة في الإنتاجية. خذ مثلاً، الهجوم الإرهابي على بومبي عام 2008 الذي راح ضحيته 200 شخص. لنقل أن هناك بليون شخص كرسوا ساعة من وقتهم لمتابعة تفاصيل ما بعد الخبر: شاهدوا تحديث الخبر دقيقة بدقيقة، واستمعوا لثرثرة تافهة من بضعة «خبراء» ومعلقين. هذه «تخمينات» واقعية طالما أن سكان الهند يربو على بليون نسمة. لذا، فإن احصائيتنا المتحفظة: واحد بليون مضروباً في ساعة واحدة مشتتة للتفكير تساوي إضراب عن العمل لمدة مليون ساعة. إذا حولنا ذلك، سنعلم ان استهلاك الأخبار ضيع حياة 2000 شخص تقريباً. تناقض ساخر، لكنه وصف دقيق.
أخيراً، بعد تجربته المثيرة في الانقطاع عن الأخبار وفي تأليف الكتاب، يتوقع دوبيلي ساخراً بأن إدارة ظهرك للأخبار مفيد بمقدار تصحيحك للأخطاء المليئة في كتابه.. يقول: أركل عادتك في متابعة الأخبار.. أركلها بالكامل.. وبدلاً من ذلك، أقرأ مقالات طويلة عميقة أو كتب.. نعم، لا شيء يضاهي الكتب لفهم العالم..