إبراهيم عبدالله العمار
حسّان.. لو رأيتَه وهو في سن السادسة من عمره وسمعته يتكلم، فإنك ستحمل الرأي التالي: متخلِّف عقلياً.
لست وحدك، بل حتى الأخصاء النفسيون لما فحصوه وصلوا لنفس النتيجة. لكَ تخيُّل شعور أهله لما لاحظوا اختلافه عن أقرانه وتمنوا الفَرَج من الطب النفسي، وكانت الصدمة أن الأطباء أكدوا ما خشوه.
لكن... قيَّض الله له أملاً، بل أملين: أُمه التي صبرت وكافحت، باحثة عمّن يعِين طفلها، طامحة لوجود حل يسهّل حياة ابنها. وطبيب نفسي نحرير، أخذ على عاتقه تحويل هذا الطفل صاحب التفكير البطئ وصعوبة الفهم وعُسر الاستيعاب لطفل طبيعي. وهذا ما عكف عليه سنيناً.
تبدو مهمة مستحيلة. هذا الطفل لا يكاد يفقه شيئاً، ولا لوم كبير على من يراه فيظن أنه ميئوس من عقله، لكن رأى هذا الطبيب البارع فيه بذرة، وشرع يُنمّيها، وما ترك طريقة من طرق مهنته إلا وسلكها وهو يحاور هذا الطفل في جلساته، فيهدم الأجزاء الضارة في تفكيره والعادات السيئة، ويبني الأفكار الطيبة والعادات الحسنة، ورغم بطء الاستجابة إلا أنها ملحوظة، وبعد 15 سنة من الصبر والعمل الدؤوب، وصل حسّان إلى مرحلة لم يتخيل أحد أن يصلها: لم يتحول إلى شاب عادي فحسب، بل فاق في ذكائه وتفكيره أناساً لم يولدوا بتلك الصعوبات العقلية!
قابلتُ حسّاناً وحادثته. لاحظتُ أنَّ في طريقة كلامه وتصرفاته بقيةٌ تومئ لتلك الصعوبات الذهنية، لكن ستتعجب بمجرد أن تسمعه يكمل كلامه. هل تتوقع أن يحدثك عن مباراة كرة مثلاً؟ لا، أخذ يناقشني في نظريات اقتصادية! تكلم عن كارل ماركس ونظريته، وأسهب في شرحها وبيان رأيه فيها، وأخذ يهيل عليَّ المعلومات حتى غمرني! وأنا في قمة الدهشة من هذه الموسوعة المتحركة. هل يعقل أنّ هذا كان طفلاً أجمع الناس على تخلُّفه؟ ولما فرغ من الاقتصاد والفلسفة بدأ يتحدث عن الهندسة، وهو مجال يحبه ويسعى أن يسلكه مهنياً، ولن تجد الكثير ممن يَجمع بين حب علوم فكرية كالفلسفة وعلوم تطبيقية كالهندسة، لكن حسّان من هذه الفئة الفريدة.
كبحتُ تأثّري وأنا أنصت له. رأيتُ جوهر هذا الشاب، بل رأيت 3 جواهر بشرية عظيمة تأملتُها أثناء شرحه المتحمس: 1) رأيتُ الحب. حب أمه وصبرها على تربيته وتعليمه والبحث عن أطباء باستمرار له، ورفضها كلام أي طبيب قال لها إن ابنها متخلِّف. 2) رأيت البراعة، براعة هذا الأخصائي الذي رمى خارج النافذة كل آراء نُظرائه وتفرّد برأيه أنّ هذا الطفل له أمل ومستقبل، وبإصرار واحترافية مشى معه حتى خط النهاية. 3) أخيراً رأيتُ الكفاح. كفاح حسّان الذي يتصدّر بطولة هذه القصة، وما كان هذا ليتم لو أنه تكاسل وتقاعس وترك المهمة لغيره أن يخرجوه من تلك المشاق.
لم تَضِع تضحيات الأم ولا صبر الأخصائي ولا كفاح حسان، وانبثقت لؤلؤة يخطف بريقها الأبصار.