هاني سالم مسهور
في الشرق الأوسط يتلقى تنظيم "داعش" هزائم متوالية، ليس في العراق وسوريا التي أظهر فيها دولة الخوف والرعب للعالم، بل يتجاوز ذلك للتراجع الملحوظ للخطاب المتشدد في عموم مناطق النزاع، وعلى رغم من أن مصادر القوة للخطاب المتشدد ما زال حاضراً من خلال الدعم الطائفي والمذهبي المُبقي على نهج وسلوك تشدد خطابه الشعبوي وإن كان مأخوذاً من نبع الإرث الطائفي الذي تُغذيه القومية الإيرانية مثلاً ليكون أكثر تشنجاً فيما يقابله خطاب مُضاد خلق هذا الصراع الاثني الغارق في الشعبوية بكل ما في الشرق من تقاليد عميقة.
في الجهة الأخرى من العالم ما زال كثيرون يتنفسون بعمق ويشعرون بنشوة انتصار واسعة فلقد كانت الهزيمة الساحقة التي أنزلها إيمانويل ماكرون بزعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة مارين لوبان في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية انتصاراً كبيراً لأوروبا الليبرالية. لكنها كانت مجرد معركة وليست حرباً.
ما حصل في الانتخابات الفرنسية وما تبعه كذلك في الانتخابات البريطانية التي خسر فيها حزب المحافظين أغلبيته مما جعل السيدة تيريزا ماي تعيد تشكيل حكومتها بقدر ضعيف لا يؤهلها إلى فرض ما كانت تتأمله في معركتها مع الاتحاد الأوروبي للحصول بمكاسب كبيرة، وهو ما جعلها تتراجع مباشرة عندما قدمت تطمينات على احتفاظ الأوربيين على مكتسباتهم في جميع المملكة المتحدة.
ما عزز الخطاب الشعبوي في أوروبا وداخل معقل الحُريات كانت مفاهيم القومية الاقتصادية، والحماية الاجتماعية، ومناهضة أوروبا، ومناهضة العولمة، والعداء ليس فقط للمؤسسة السياسية بل وأيضاً للسياسة في حد ذاتها، هذا الخليط من الخطاب يذكرنا بصعود "الفاشية" في إيطاليا وكذلك "النازية" الألمانية التي غزت أوروبا والعالم قبل أن تسقط عام 1945م، ونتيجة السياسات الاقتصادية القاسية تفشت طبقة سياسية حاكمة حولت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية والنقابات العمالية إلى مجرد ظلال لذواتها فتخلقت هذه الطبقة من الغاضبين على السياسات.
لا يُمكن إطلاقاً تجاوز نسبة السائمين في أوروبا الغربية من سياسات الأحزاب الليبرالية التقليدية، فلقد تحولت مؤسسات الحُكم لمراعاة مصالحها الذاتية والحفاظ على قدرة الشركات العابرة للقارات لتحافظ على مواردها المالية دون أن تقدم للشعوب حلولاً مبتكرة للأزمات الطارئة أو حتى تلك المتجذرة في المجتمعات الغربية.
دائماً ما يُمثل رئيس فرنسا ايمانويل ماكرون واجهة لما يجب أن نصفه بـ (نيو ـ ليبرالية) أي الروح الجديدة لليبرالية السياسية التي ترغب بإعادة توهج النهج الغربي في ليبرالية مستنيرة بل تحفيز الغرب مُجدداً لبث روح الانفتاح، حتى الولايات المتحدة التي أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض يعود فيها الشعب الأمريكي للانضباط خلف السلوك الليبرالي الذي جعل من ترامب نفسه يعود في عدد من وعوده الانتخابية عندما أدرك أن ما يجب أن يبقى هو انفتاح الولايات المتحدة وريادتها العالمية.
في المقابل تبدو زعيمة الجبهة الفرنسية مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية مصممة على استجماع قوتها وتحشييد القوى الأوروبية خارج فرنسا لإسقاط (الليبراليين الجُدد) الصاعدين في بولندا والدنمارك والمجر وبلجيكا، وهذا اختبار لسياسة ماكرون إن كان سيمارس مع لوبان سياسة التضييق أو تركها تختبر قوتها الشعبوية مُجدداً سواء في الانتخابات البلدية القادمة أو حتى في عواصم أوروبية أخرى.
انحسار الشعبوية في فرنسا مسألة مقبولة ومشجعة خاصة مع ماكرون المؤيد للهجرة والمؤيد لأوروبا القوية، في مقابل ذلك يجب أن نغفل عن النظر لما يحصل في الشرق فتلاشي "داعش" ميدانياً يجب أن يستمر بتلاشي أفكارها كذلك، ليس هذا فحسب ففي الجانب الآخر هنالك إيران التي لا تنفك تنفث في نار الطائفية وتغذيها أكثر وأكثر، لا حلول أمام الشرق غير تلك الحلول الموجودة في الغرب، تجديد خطاب الليبرالية لمواجهة تحدي الخوف والرعب الآتي من مواريث بالية تريد استمرار الصراعات لتنفيذ سياسات توسعية بأفكار قومية طائفية.