لنفهم، يجب أن نقارن
عندما أراد الروائي النمساوي العظيم هيرمان بروخ أن يحجب شخصية ما في روايته فإنه يقوم أولاً بتقليص أساسيات تموضع الشخصية، ثم يتقدم باتجاه سماتها الأكثر الفردية. ينتقل من الاختصار إلى التعيين. إيس Esch هو البطل في الرواية الثانية من ثلاثية بروخ «المسرنمون» (1932-1933). يقول بروخ عنه (أي عن إيس)، إنه ثائر في جوهره. ما هو الثائر؟ أفضل طريقة لفهم هذه الظاهرة - يذهب بروخ للقول - هي من خلال المقارنة. يقارن بروخ الثائر إلى المجرم. ما هو المجرم؟ شخص محافظ، يعوِّل على النظام الحالي، ويريد أن ينضم إليه، ويعتبر سرقاته واختلاساته على أنها نشاط مهني سيجعله موطناً حال البقية. الثائر، بالمقابل، يجاهد النظام القائم ليجعله تحت هيمنته الخاصة. إيس Esch ليس مجرماً. إيس ثائر. ثائر على غرار مارتن لوثر، يقول بروخ. لكن لماذا أنا أناقش إيس Esch؟ إنه الروائي الذي يهمني وليس شخصياته! فبمن سنقارن هذا الروائي؟
الشاعر والروائي
بمن سنقارن الروائي؟ بالشاعر الغنائي. إن مضمون الشعر الغنائي، كما يقول هيغل، هو الشاعر ذاته، إنه يعطي صوتاً لعالمه الداخلي؛ ذلك لإثارة المشاعر لدى جماهيره، أي الحالة العقلية التي يخوضها. وحتى لو عالج الشاعر قوالب «موضوعية» خارجة عن حياته الذاتية «فإن الشاعر الغنائي العظيم سيبتعد بسرعة عنها، وينتهي به المطاف راسمًا صورة شخصية عن ذاته» بالألمانية «صورة تطرح نفسها (stellt sich selber dar)».
يقول هيغل إن الموسيقى والشعر لهما مزيّة عن الفن التشكيلي: إنها مزيّة الغنائية. وفي الغنائية، يواصل القول، فإن بوسع الموسيقى أن تذهب أبعد من الشعر؛ ذلك بسبب قدرتها على استيعاب أكثر الحركات سريّة في العالم الداخلي، التي ليست متاحة عبر الكلمات. ومع ذلك يوجد فن في حالة الكلمات هذه حتى، موسيقى أكثر غنائية من غنائية الشعر ذاته. من هذا يمكننا استنتاج أن الشعور بالغنائية ليس محدودًا لفرع من الأدب (الشعر الغنائي) لكنه، بالأحرى، يكرِّس حالة محددة من الوجود، وهذا، من وجهة النظر هذه، يعني أن الشاعر الغنائي ما هو إلا التجسيد الأكثر نموذجية للإنسان المبهر في روحه والراغب في جعل صوته مسموعاً.
لطالما اعتُبرت اليفاعة أنها العمر الغنائي، أي أنه العمر الذي يكون فيه الفرد مركزاً بشكل حصري على ذاته، حيث لا يمكنه أن يرى، أن يستوعب، أن يحكم بشجاعة على العالم من حوله. إذا بدأنا بهذه الفرضية (بضرورة تخطيطية، تخطيط، أعبر عنه بدقة المعنى الحرفي)، فالعبور من المراهقة إلى النضج هو العبور إلى ما بعد التوجه النفسي الغنائي.
لو تصورتُ نشأة الروائي في شكل حكاية مثالية، أسطورة، ستبدو لي مثل قصة تحويلية: سيتحول سول إلى بول؛ سيولد الروائي من أنقاض غنائيته. أي أنه يولد من العالم.
مَرْكب تحويلي
مِن على رف مكتبتي آخذ نسخة من رواية مدام بوفاري، نسخة الجيب من العام 1972. وهنالك مقدمتان، واحدة بقلم كاتب، اسمه هنري دي مونترلانت، والثانية بقلم ناقد أدبي، موريس بارديش. لم يجد هؤلاء الرجال بأساً في وضع أنفسهم على مسافة من الكتاب بحيث وضعوا أيديهم على دهاليز فلوبير وروايته. يقول مونترلانت «ليست خفة الدم.. ولا نضارة الفكرة.. ولا الصفاء في الكتابة، ولا الأصوات اللامتوقعة لأعماق القلب البشري، ولا الاكتشافات المُعبِّرة، ولا النبل، ولا الظرافة: فلوبير يفتقد أن يكون أصيلاً إلى درجة صاعقة». وبلا شك، يستمر بالقول، ربما يتعلم المرء شيئاً من فلوبير، لكن بشرط ألا يضع له قيمة أعلى مما يملكها، ويعلم أنه «مصنوع من نفس الطينة التي عليها راسين، سانت سايمون، تشيتوبرياند، وميشليت».
بارديش صاحب الرأي الثاني في الطبعة، يعيد محاسبة نشأة فلوبير الروائي ويقول: في سبتمبر، من العام 1849، قرأ على صديقين مخطوطة «إغواء القديس أنثوني»، وهي «قطعة نثرية رومانسية عظيمة» (لا أزال أقتبس من كلام بارديش، والكلام لكونديرا)، بطريقة «يضع فيها كل قلبه، وكل طموحاته»، وكل «تفكيره الضخم». القطعة كانت إدانة صريحة، وأصدقاؤه نصحوه أن يتخلى عن «خيالاته الرومانسية»، و»ترحالاته الغنائية». رضخ لفلوبير لذلك، لاحقاً بعد عامين، في أواخر العام 1851، بدأ بكتابة «مدام بوفاري». قام بذلك «بلا متعة»، يقول بارديش، قام بذلك «ككفَّارة»، «واستمر يلعن ويشتكي منها» في رسائله: «رواية مدام بوفاري أصابتني بالملل، رواية مدام بوفاري تهيجني، والابتذال في هذا الموضوع يصيبني بالغثيان»، وهلم جراً.
أجد أنه من الصعب أن يحدث رغمًا عن إرادة فلوبير أن يكبت «كل قلبه، كل طموحاته» لمجرد متابعة أمنيات أصدقائه. لا، ما أشار إليه بارديش ليس قصة تدمير للذات. إنها قصة تحوُّل. فلوبير في الثلاثين من عمره، وهو العمر المناسب للخروج من شرنقته الغنائية. وبالنسبة للتذمر لاحقاً من أن شخصياته في رواياته كانت عادية؛ فهي الضريبة الذي يدفعها مقابل شغفه بفنه: فن الرواية والأراضي التي تكشفها، ومعنى واقعية الحياة الذي تظهره.
الوميض الخافت للهزل
بعد أمسية اجتماعية قضاها بوجود المحبوبة السيدة آرنوكس، ينتشي فريدريك لمستقبله، ذلك في رواية «التربية العاطفية» لفلوبير، ويذهب إلى داره، ويقف أمام المرآة. أقتبس من الرواية: «اعتبرَ نفسه وسيمًا، وتريّث دقيقة لينظر إلى صورته».
«دقيقة». في وحدة الزمن هذه على التحديد هنالك تكمن ضخامة المشهد بالكامل. يتريث، يُحدق، يرى نفسه وسيماً. لدقيقة كاملة. بلا تزحزح. إنه يحب، لكنه لا يفكر في المرأة التي يحبها، هو مبهور بذاته جداً. ينظر في المرآة. لكنه لا يرى نفسه وهو ينظر إلى المرآة (كما يراه فلوبير). إنه محبوس في ذاته الغنائية وغير مدرك أن الوميض الخافت للهزل قد استقر عليه وعلى حبِّه.
التحول اللاغنائي هو تجربة أساسية في السيرة الذاتية للروائي المنفصل عن ذاته، فهو يرى فجأة تلك الذات عن بعد، مشدوهاً ليجد أنه لم يعد الشخص الذي اعتقد أنه كانه، بعد هذه التجربة، سيعلم ألا أحد هو الشخص الذي يظن أنه هو، وأن سوء الفهم هذا هو أمر كوني، أولي، وأنه يلقي على الناس (على سبيل المثال، بالنسبة لفريدريك، واقفاً هناك أمام المرآة) الوميض الخافت من الهزل. (ذاك الوميض من الهزل، المكتشف فجأة، هي تلك المكافأة الثمينة الصامتة لتحوّل الروائي).
وبالمضي قُدُماً إلى نهاية قصتها، أعني مدام بوفاري، نجدها تستلقي فوق أريكة، بعدما خذلها الممولون وهجرها ليون. وفتح باب غرفتها حامل الحقائب «وانبعث نوع من العواء المكتوم». قامت فوراً «وقذفت عملة نقد معدنية بقيمة خمسة فرانكات فوق كتفه. كان ذلك كل ما كانت تملكه. ورأت أن ذلك كان تصرفاً مقبلاً، أي أن تقذفه بالعملة المعدنية بهذا الشكل».
كانت تلك الفرنكات الخمسة حقيقة ثروتها الوحيدة. كانت قد وصلت إلى النهاية. لكن الجملة الأخيرة المائلة تكشف عما رآه فلوبير بشكل جيد لكن إيما لم تحط به: إنها بالكاد لم تظهر أي إيماءة تعبر عن الكرم؛ كانت سعيدة بذاتها لفعل ذلك، حتى في لحظة اليأس الأصيلة لم تفوت الفرصة في أن تظهر إيماءتها تلك، ببراءة، متمنية أن تظهر بمظهر جيد من أجل مصلحتها الشخصية. إشراقة رقيقة ساخرة لن تفارقها أبداً، حتى مع أنها تتقدم للأمام باتجاه الموت الذي كان قريباً جداً?
الستارة المشقوقة
ستارة سحرية، منسوجة من الأساطير، معلقة أمام العالم. ولقد بعث سيرفانتس الدون كيشوت متجولاً فعبر الستارة ممزقاً إياها. تفتَّح العالم قبل تعرية الفارس المتجول في الملهاة من الابتذال.
مثل امرأة وضعت مساحيق التجميل قبل أن تهرع إلى لقاء الحب الأول، مثلما يسرع العالم نحونا في لحظة ولادتنا، وهو متكون قبل ذلك الحين، نراه مقنَّعاً، ومعاد تفسيره. والأناس الملتزمون بالعرف لن يكونوا وحدهم من خُدعوا؛ الأنواع الثائرة، تواقون لمجابهة كل شيء وكل أحد، لن يلاحظوا مدى إذعانهم هم؛ سيثوروا فقط ضد ما تم تفسيره (تفسيره سابقاً) كأمر يستحق التمرد عليه.
ديلاكروا في لوحته الشهيرة «الحرية تقود الناس» نسخ الإعدادات من ستارة المُفسَّر سابقاً: امرأة شابة عند المتراس، بوجه قاسي الملامح، صدرها العاري يشيع الخوف؛ وفي جانبها، غِرٌّ بمسدس. وعلى قلة اهتمامي بهذه الصورة سيكون من السخف استبعادها عما ندعوه لوحة عظيمة.
لكن رواية تمجِّد وضعيات تحوُّليِّة مثل هذه، رموز مجنونة مثل هذه، تُقصي نفسها من تاريخ الرواية. ذلك لأنها بالعبور وهي تمزق ستارة المُفسَّر سابقاً والتي وضعه سيرفانتس كفن جديد مستمر؛ ينتقل صدى عمله الهدام، ويمتد إلى كل رواية تستحق هذا الاسم؛ إنه العلامة المُعرّفة لفن الرواية.
الشهرة
في كتاب «الهوجوية» المنشور عام 1935 بشأن فيكتور هوجو، الذي ألفه الكاتب المسرحي إيغوين لونيسكو، عندما كان في السادسة والعشرين، ولا يزال يعيش في رومانيا، وكتب فيه «الخصائص المتعلقة بالسيرة الذاتية لمشاهير الرجال هي أنهم كانوا يرغبون بالشهرة. الخصائص المتعلقة بالسيرة الذاتية لجميع الرجال هي أنهم لم يريدوا أن يكونوا، أو أنهم لم يخطر ببالهم أن يكونوا، رجالاً مشهورين.. رجل مشهور هو رجل مثير للاشمئزاز».
دعونا نحاول تقوية هذا المصطلح: يغدو الرجل مشهوراً عندما يكون عدد الأشخاص الذين يعرفونه أكبر بشكل ملحوظ من عدد الأشخاص الذين يعرفهم هو. الاهتمام الخاص الذي يتمتع به جرّاح عظيم ليس شهرة: إنه ليس محبوباً من قِبل العامة بل من قِبل مرضاه، وزملاء مهنته. وهو يعيش في اتزان. الشهرة هي انعدام الاتزان. هنالك مهن تجر الشهرة وراءها بالضرورة، بشكل لا مفر منه مثل: السياسيون، عارضوا الأزياء، والرياضيون والفنانون.
أما شهرة الفنانين فهي الأكثر تغوُّلاً من بين البقية؛ ذلك لأنها تنطوي على فكرة الخلود. وهذا شَرَك شيطاني؛ لأن طموحاً غريباً من جنون العظمة وللبقاء على قيد الحياة هو أمر لا بد منهما بشأن نزاهة الفنان، كل رواية تكتب بشغف حقيقي تطمح بشكل طبيعي إلى أن تحتفظ بقيمة جمالية دائمة، يعني قيمة قادرة على إنقاذ مؤلفها ليكتب دون أن يكون هذا الطموح مثار سخرية: إن سبّاكاً عادياً قد يكون نافعاً للناس، لكن روائياً عادياً وينتج بوعي وقصد منه كتباً تعتبر سريعة الزوال وعابرة، مبتذلة وتافهة، تقليدية - وبالتالي غير مفيدة، وبالتالي تثقل الكاهل، وبالتالي سامة - هو إنتاج جدير بالازدراء.
لقد قتلوا ألبرتينتي
أكبر مني بعشر سنوات، إيفان بلانتي (مات منذ سنوات الآن)، شاعرٌ أعجبت به كثيراً عندما كان في أربعينياته. في إحدى مجموعاته الشعرية، خطٌ معين كان متجدداً، مع امرأة يسميها «ألبيرتينكوتكي»، الذي يعني «ألبرتين، أنت». كانت إشارة إلى ألبرتين بروست، بالطبع. بات الاسم بالنسبة لي، كمراهق، أكثر الأسماء التي أسرتني من بين كل الأسماء المؤنثة.
كل ما عرفت عن بروست كان فقرات من العشرين أو حولها من أجزاء من رواية «في البحث عن الزمن المفقود» مترجمة إلى التشيكية، ومصفوفة أعلى مكتبة صديق. بسبب بلانتي، بسبب «ألبيرتينكوتكي» التي تخصه، في يوم ما وجدتني منغمساً فيها. وعندما وصلت إلى الجزء الثاني، استولت ألبرتين بروست بشكل متشابك على ألبرتين الشاعر (بلانتي).
تعاهد الناس في التشيك أعمال المحبوب بروست لكنهم لم يعرفوا سيرته. إيفان بلانتي لم يعرفها. وكان الوقت متأخراً حقيقة عندما عرفت أنا نفسي امتياز التجاهل المحبب، وعندما سمعت أن كتابته شخصية ألبرتين كانت نتيجة إلهامه برجل، رجل كان بروست يحبه.
لكن عن ماذا يتحدثون! بغض النظر عمن ألهم هذه الشخصية، ألبرتين هي ألبرتين، وهذا كل ما في الأمر! الرواية هي نتاج خيميائية تحوِّل المرأة إلى رجل، ورجل إلى امرأة، إنها حمأة إلى الذهب، حكاية درامية! خيمياء مقدسة هي ما تمنح القوة لكل روائي، هي السر، وهي روعة فنه!
لكن كل ذلك لم يفد؛ قمت بكل ما وسعي لأصدق أن ألبرتين كانت امرأة لا تُنسى، لكن، بمجرد إخباري أن نموذجها الأساس كان رجلاً صارت هذه المعلومة غير المفيدة وكأنها قد وضعت في رأسي مثل فيروس يصيب برنامج الكمبيوتر، ذكرٌ وضع بيني وبين ألبرتين؛ كان يشوش صورتها، ويقلل من أنوثتها. لدقيقة كان بإمكاني أن أراها بقوام جميل، ثم أراها بجسد مسطَّح، وبين حين وآخر أراها بشارب يمكن أن يظهر على بشرة وجهها الحساسة.
لقد قتلوا ألبرتينتي. واستدعي كلمات فلوبير: «يجب على الفنان أن يجعل الأجيال تعتقد أنه لم يعش أبداً». وفهم معنى ذلك السطر يكون هكذا: ما يسعى الروائي لحمايته فوق كل شيء هو ليس ذاته بل ألبرتين والسيدة آرنوكس (يعني شخصيات أعماله).
رأي مارسيل بروست
في رواية «البحث عن الزمن المفقود» كان بروست واضحاً تماماً: «في هذه الرواية.. لا يوجد هناك ولا حادثة واحدة ليست محض خيال.. ولا شخصية واحدة كانت حقيقة». لكنها على أي حال كانت مرتبطة بشكل وثيق بحياة مؤلفها، تظهر رواية بروست، بدون تساؤل، على القطب المقابل من ساحة السيرة الذاتية بقلم صاحبها: لا يوجد بها أي قصد يتعلق بالسيرة الذاتية الشخصية؛ لم يكتبها لكي يتحدث عن حياته لكن ليُري القراء حيواتهم هم. «كل قارئ، وهو يقرأ، هو في الحقيقة قارئ ذاته، وعمل الكاتب هو مجرد أداة بصرية توفر للقارئ نوعاً من التمييز يمكنه من رؤية ما قد لا يرى في نفسه من دون هذا الكتاب. إذا استطاع القارئ أن يتعرف على ذاته من خلال ما يقوله الكتاب فهذا هو إثبات لصدق الكتاب». هذه الأسطر من بروست لا تُعرِّف فقط معنى رواية بروست؛ إنها تعرِّف حقيقة فن الرواية.
القيم الأساسية
يلخص بارديش رأيه على «مدام بوفاري» قائلاً: «فلوبير ضيّع دوافعه ككاتب! وهذا ليس في الأساس رأي الكثير من محبي فلوبير الذين ينتهون إلى القول، أوه، لكنك لو قرأت مراسلاته، أي عمل محكم، أي رجل مثير سيتكشف لك!».
أنا، أيضًا، أعيد قراءة رسائل فلوبير، متحمساً لمعرفة ما كان يفكر فيه بشأن فنه وفن الكُتَّاب الآخرين. مع ذلك، كما أن المراسلات مذهلة، فهي ليست عملاً مذهلاً وليست عملاً فنياً. لأن «العمل الفني ليس ببساطة كل ما يكتبه الروائي، إن دفاتر ملاحظاته، مفكراته، مقالاته هي في النهاية نتيجة وجزء من عمل طويل على مشروع جمالي.
سأذهب إلى أبعد من ذلك: «العمل الفني» هو ما يوافق عليه الكاتب من خلال تقييمه النهائي. ولأن الحياة قصيرة، والقراءة طويلة، والأدب هذه الأيام في طريقه لقتل نفسه من خلال التكاثر المجنون، فإن كل روائي، يبدأ بعمله، يجب أن يلغي كل ما هو ثانوي؛ ليضع لنفسه وللآخرين قيم ما هو أساسي!
لكنه ليس الكاتب فقط، المئات والآلاف من الكتاب؛ هنالك أيضا الباحثون، جيوش من الباحثين، الذين، يسترشدون بأخلاقيات أخرى معاكسة، يراكمون كل شيء يستطيعون إيجاده لإعلاء هدف جامع أسمى. جامع، بحيث يحتوي على جبال من المسودّات، فقرات مشطوبة، فصول مرفوضة من قِبل الكاتب مع ذلك ينشرها الباحثون في ما نسميه «طبعات تنقيحية»، تحت عناوين غادرة «المتغيرات»، التي تعني، لو كانت الكلمات لا تزال تحمل معنىً، أن أي شيء كتبه المؤلف له قيمة تضاهي أي شيء آخر، والتي قد تكون موافقاً عليها من قبله بطريقة مشابهة.
القيم الأساسية قد أفسحت الطريق لأخلاقيات الأرشيف. (مثالية الأرشيف: المساواة المحببة التي تسود في مدفن مشترك هائل).
القراءة طويلة، الحياة قصيرة
أتحدث مع صديق، كاتب فرنسي؛ وأحثُه لقراءة ويتولد غومبروويز Witold Gombrowicz. ثم عندما التقيت به في وقت لاحق لم يكن مرتاحاً: «أطعتك، لكن، بصدق، لم أفهم حماستك». «ماذا قرأت؟». «ممسوس». «تبًّا! لماذا ممسوس؟».
«ممسوس: سر ميسلوتش» ظهرت ككتاب فقط بعد موت غومبروويز. وهي رواية مشهورة، نشرها وهو شاب باسم مستعار كسلسلة في مجلة بولندية قبل الحرب. لم يضعها في كتاب أبداً؛ لم ينوِ ذلك أبداً. لاحقاً في نهاية حياته نشرت مقابلة طويلة مع دومنيك دي رو في مطبوع باسم «نوع من الوصية»، وفيها ناقش غومبروويز كل أعماله، كلها، كتاباً بعد آخر. ولم ينبس بكلمة عن رواية «ممسوس»!
قلت للزميل «يجدر أن تقرأ فريدريك! أو بورنوغرافيا!»
نظر إليَّ بأسف وقال «يا صديقي، الحياة أمامي قصيرة. والوقت الذي بإمكاني منحه كاتبك قد انتهى».
الفتى الصغير وجدَّتُه
قطع سترافنسكي نهائياً صداقته الطويلة مع قائد الفرقة الموسيقية إيرنست آنسيرميت عندما حاولت رسالة أن تغير في معزوفته «Jeu de Carte». لاحقًا، راجع سترافينسكي «سيمفونيات آلات النفخ» وقام بعدد من المراجعات. سخط آنسيرميت بسماع ذلك: لم تعجبه: أعني المراجعات، وتخاصم مع حق سترافنسكي في تغيير ما قام بكتابته أول الأمر.
كما في المرة الأولى والمرة الثانية، ردة فعل سترافنسكي كانت نفسها: إنه ليس من شأنك، أيها الزميل! لا تتحامل على عملي بالطريقة التي تتعامل بها في غرفة نومك! لأن ما يصنعه مؤلف لا ينتمي لأبيه، ولا أمه، ولا لأمته أو البشرية؛ إنه لا ينتمي سوى لذاته؛ وبإمكانه نشره في الوقت الذي يريده لو أراد؛ ويستطيع تغييره، مراجعته، تطويله، تقصيره، رميه في المرحاض وإرساله إلى المجاري بلا أدنى التزام لتفسير ذاته لأي أحد على الإطلاق.
كنت في التاسعة عشرة عندما، في مسقط رأسي، ألقى أكاديمي شاب محاضرة عامة؛ كانت ذلك أثناء الأشهر الأولى للثورة الشيوعية، وتمشياً مع الأجواء تحدث عن المسؤولية الاجتماعية للفن. بعد اللقاء كان هناك نقاش؛ ما أتذكره أن الشاعر جوزيف كاينار (رجل من جيل بلاتينار، وقد مات منذ زمن طويل)، حكى هذه الطرفة كرد على حديث المحاضر، بينما يقود فتى صغير جدته الكفيفة لجولة. وهم ينحدرون أسفل الطريق، كان الفتى يقول من وقت لوقت «جدتي، انتبهي لخطوات.. هنالك جذر شجرة!». ولم تتوقف العجوز عن القفز ظناً منها بأنها كانت على درب في غابة. وبَّخ المارة الفتى الصغير: «بني، أنت تعامل جدتك بشكل سيئ!». فقال الفتى «إنها جدتي! سأعاملها بالطريقة التي أريدها!» وينهي كاينار النكته قائلاً «هذا أنا، هذا حالي مع شِعري».
لن أنسى أبداً هذا الشرح لحق المؤلف الذي أعلنه تحت مرأى ومسمع نظرات غير واثقة من جانب الثورة الشابة في حينها.
رأي سيرفانتس
يضع سيرفانتس قوائم عديدة وطويلة من الكتب المتعلقة بالفروسية مرات عديدة في روايته. يذكر عناوين الكتب ولا يشعر دائماً بأنه من الضروري أن يسمي المؤلفين. في ذلك الوقت كان احترام المؤلفين وحقوقهم لم يصبح عرفاً بعد.
قبل أن يكمل سيرفانتس الجزء الثاني من روايته قام كاتب آخر مجهول إلى يومنا هذا، وسبقه بالنشر - تحت اسم مستعار - تتمة مغامرات الدون كيشوت. تصرف سيرفانتس حينها كما سيتصرف أي روائي اليوم: هاجم المنتحل بغضب بعنف وانتسب الرواية له بفخر قائلاً: «الدون كيشوت ولد من أجلي وحدي، وأنا من أجله. هو يعرف العمل، ويعرف عن الكتابة، هو وأنا ببساطة وحدة واحدة».
من عهد سيرفانتس أصبحت المسألة هذه رئيسية، وعلامة أساسية للرواية؛ إنها مسألة فريدة، خلقت فذّة، غير قابلة للانفصال عن خيال مؤلف وحيد. قبل أن يُكتب لم يكن بوسع أحد أن يتصور الدون كيشوت؛ كان الغير متوقعًا بذاته، وبلا السحر الذي في غير المتوقع لن تكون أي شخصية عظيمة في أي رواية عظيمة مقبولة مرة أخرى.
ولادة فن الرواية ارتبطت بالوعي بفكرة حق المؤلف والدفاع الشرس عنه. الروائي هو السيد الأوحد لعمله؛ هو عمله وليس ذلك فقط؛ فهي لا يمكن أن تكون غير ذلك. لكن متى ما أتى ذلك اليوم فإن فن الرواية حينها، أي إرث سيرفانتس، سينقطع عن الوجود.
- ترجمة/ علي الضويلع