قاسم حول
انتهت في الثامن والعشرين من هذا الشهر يوليو - تموز 2017 العروض الخاصة بأفلام المخرج اللبناني الراحل «مارون بغدادي» فعلى مدى ثلاثة أيام قدم «غاليري صفير» وفي إطار سينما لكل الناس ثلاثة أفلام من أعمل المخرج «مارون بغدادي» وهي «كلنا للوطن، خارج الحياة، وبيروت يا بيروت».
رحل مارون بغدادي عن عمر ناهز الثالثة وأربعين عاماً في حادثة يلفها الكثير من الغموض، فلقد وجد في الحادي عشر من ديسمبر 1993 تحت كوة المصعد ميتاً، ولم تعرف حتى الآن ظروف الحادث وكيف أصبح تحت قاعدة المصعد. ففي ظروف الحروب والحرب الأهلية اللبنانية كانت تحصل أحداث غير قابلة للتصديق، ومنها حادثة موت السينمائي اللبناني «مارون بغدادي» .. هكذا حين تسود الفوضى بعض البلدان!
«مارون بغدادي» يكتب أفلامه وسيناريوهات الأفلام بنفسه وقد أخرج ثمانية عشر فيلماً في حياته، منها ما هو روائي ومنها ما هو وثائقي. وجميع أفلامه عن الحرب الأهلية اللبنانية. وفيلم «بيروت يا بيروت» الذي اشتهر فيه، وقدّم كمخرج سينمائي حرفي موهوب، وصور كمية كبيرة من المشاهد حتى باتت بحوزته آلاف الأمتار من الأفلام التي صورها عام 1975 بمادة فلمية سليلويدية، حيث لم تكن الرقمية قد استعملت بعد. وشعر بأنه أمام كمية من المشاهد لم يكن من السهل توليفها وبنائها. ولذا فلقد أخذ المونتاج زمناً طويلاً للتوصل إلى فرز المشاهد واللقطات وصولاً إلى صيغة فيلم «بيروت يا بيروت» لكن الفيلم في النهاية قد أثار إعجاب النقاد، وقد جسد الفيلم عنف الواقع وتأثيره على مسار حياة الناس الذين باتوا يسلكون في حياتهم مسارات عنيفة ودونما هدف. وقد أسند بطولة الفيلم إلى الممثل المصري «عزت العلايلي» ولقد حاز في حياته جائزتين، الأولى وهي جائزة الصليب الأحمر عن فيلمه «لبنان بلد العسل والخمور» في مهرجان موناكو عام 1988، والثانية جائزة لجنة التحكيم عن فيلمه «خارج الحياة» عام 1991 .
التقيته في جنوب اليمن عام 1974 في دعوة وجهت لعدد من السينمائيين من قبل اليمن الجنوبي في حينه، وكانت الوفود السينمائية المدعوة، مجموعة سينمائية من فرنسا، وأنا ممثل للسينما الفلسطينية، ومارون بغداد ممثل عن الحركة الوطنية اللبنانية. وكان بغدادي قد بادر لإدراج السينما كثقافة في الحركة الوطنية اللبنانية، حيث التحق في تيار الحركة الوطنية. فأخرج فيلماً عن حياة كمال جنبلاط، بعنوان «تحية إلى كمال جنبلاط».
وكانت مشاركته في تصوير التطورات السياسية المتنامية في جنوب اليمن من خلال التنمية الزراعية ومحاولات التصنيع. للخروج بمجموعة أفلام وثائقية عن جنوب اليمن من قبل كل السينمائيين الذين وجهت لهم تلك الدعوة.
بعد أن قدم مارون بغدادي الكثير من الأفلام عن الحرب الأهلية اللبنانية التي عاشها وهو في أول شبابه فجاءت أغلب أفلامه عن تلك الحرب التي أودت بحياته بطريقة درامية غامضة! اضطر في منتصف الثمانينات أن يعود إلى فرنسا وأن ينتج أفلامه لفرنسا، وحتى في فرنسا فإن هاجس الحرب لم يفارقه، حيث بقيت موضوعات أفلامه عن لبنان وعن الحرب الأهلية اللبنانية. فلقد أخرج في فرنسا فيلم «الرجل المحجب» عن تأثير الحرب الأهلية اللبنانية على اللبنانيين في المهجر. كان مارون بغدادي مشروعاً لمخرج سينمائي مهاجر يأخذ مكانته في السينما العالمية إلى مصاف كبار المخرجين، ولكن دراما الحرب ومأساة الحروب قد أودت بحياته في حادثة مرعبة وجد فيها مارون بغدادي ميتاً في كوة تحت قاعدة المصعد في البناية التي يسكنها.
ولأن الذاكرة العربية المرئية باتت مشتتة وتالفة فإن أفلام مارون بغدادي هي الأخرى غير متوفرة بطريقة نظامية يمكن أن تتوافر فيها شروط عرض جديرة بالجهد الذي بذله المخرج وبالإبداع الذي يتسم به. فلقد بذلت الجهات التي أقامت ثلاث أمسيات لثلاثة من أفلامه من أجل توفر عروض تحمل الحد الأدنى من مواصفات العروض النظامية. فبعض أفلامه وجدت على أشرطة قديمة من نوع «في أج أس» وهي غير قابلة للعرض وجرت محاولات لنقلها على شرائح «دي في دي» ولكن نوعية الصورة لم تكن بالمستوى الذي يؤهلها للعرض، وأظن بأن عروض بعض أفلام مارون بغدادي دون إنقاذها بعملية الترمييم والرتوش المناسبة على شريط السليلويد تمهيدا لنقلها على الفورمات الحديثة، فإن الأفلام وبمسافة العرض بين جهاز العرض والشاشة يصعب مشاهدة تلك الأفلام بطريقة واضحة ومؤثّرة. وهذه مشكلة تعاني منها اليوم السينما العربية بعد ما تبعثرت المواد الفلمية في مصر وفي العراق وفي ليبيا وفي لبنان وفلسطين بسبب الاضطرابات الحاصلة في المنطقة. وتتحمّل منظمة «اليكسو» العربية و«اليونسكو» الدولية مسؤولية حفظ الذاكرة العربية. فالأفلام السينمائية في تاريخ السينما العربية لا تتوافر لها مؤسسات للذاكرة تخضع لترميم الصورة وتصحيح ألوانها أو تدرجاتها اللونية ونقلها على فورمات «الدي سي بي» الحديثة. ثمة نواد للسينيما وثمة مهرجانات للسينما تحاول أن تنهض بتاريخ السينما، لكن السينما بالنهاية تحتاج إلى المال!
مخرجون سينمائيون في العالم كانت حياتهم بمثابة فيلم سينمائي ورحلوا عن الحياة بطريقة درامية.. السينمائي مارون بغداد أحد هؤلاء المخرجين!