يقول أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة»: «منذ بداية هذا الكتاب، تحدثت عن الهويات القاتلة، وهذه التسمية لا تبدو لي ضرباً من الغلو ولا سيما أن المفهوم الذي أدينه ذلك المفهوم الذي يختصر الهوية في انتماء واحد يحصر البشر في موقف متحيز ومتعصب متشدد ومهيمن، لا بل انتحاري في بعض الأحيان، غالباً ما يحولهم إلى قتلة أو أتباع قتلة، فتتشوه رؤيتهم إلى العالم وتنحرف».
إن هذا العنوان (الهويات القاتلة) لهو خير تعبير عما نشهده في عالمنا العربي والإسلامي من حروب وفتن وإرهاب، تتخذ من الهوية شعاراً لها، وإن كانت تخفي تحت طياتها أهدافاً أخرى. فضلاً عن صراع الهوية الآخر في ظل تغرب العرب والمسلمين في بلاد لا تحمل نبضهم ولا إيقاع دمائهم.
إن الأدب لا يمكن أن يسير متجاهلاً هذه المآسي الإنسانية، وإن كان الشعر يحملها ضمن غموضه وترميزه، فإن السرد - والرواية خصوصاً - أقدر على حمل هذه الهموم والتعبير عنها في شكل أكثر صراحة. فمهما أوغلت الرواية حديثاً في شعريتها، فإنها لازالت تحمل السمة النثرية في وضوح أكثر ومنطقية أكثر وتحليلية أكثر.
ولو تأملنا في الروايات الحديثة لأقلام شابة غالباً، وبعضها جاوزت الشيخوخة، لوجدنا أن هذه الأعمال تستند إلى مساءلة هذه الهوية في رؤاها، تلك المساءلة التي تعكس روحاً هزها هذا الزلزال الدموي في المنطقة العربية والإسلامية.
في رواية (طشاري) للكاتبة العراقية إنعام كجه جي، يحمل عنوانها معنى التشتت والتشرذم في اللهجة العراقية، وهو الحال الذي يعيشه العراقيون بعد تشتتهم في المنافي. ففيها إشارات إلى صراع الهوية الذي لم يكن العراقيون يعرفونه من قبل: «انقبض قلبها وهي ترى المذاهب تفصل بين الجارات ونساء الحي وتباعد بين العشائر والعائلات، وحتى شقيقات صاحبة البيت لم يتمكن من الحضور بسبب الحواجز المقامة حول بيوتهن: «بلد فذ ضربته لعنة الفرقة فمسخته وحشاً».
وتستشرف رواية (فئران أمي حصة) لسعود السنعوسي، مستقبلاً موجعاً للأفق العربي، حيث تغدو الكويت ساحة احتشاد وصراع طائفي ومذهبي وفكري وديني. هذا هو الطاعون: طاعون الحرب، طاعون الطائفية، طاعون المذهبية، هي نتاج الفئران التي تكاثرت بإهمال دون رقابة ولا متابعة ولا مراجعة: «الفئران لا تجرؤ على الاقتراب من قفص الدجاجات ما لم تكن إحدى بيضاتها مكسورة».
وتوظف رواية (سمراويت) للكاتب الإرتيري (حجي جابر) الهوية أيضاً، حيث بطل الرواية الذي يصارع العيش بين هويتين: «في السعودية لم أعش سعودياً خالصاً ولا إرتيرياً خالصاً كنت شيئاً بينهما، شيء يملك نصف انتماء ونصف حنين ونصف وطنية ونصف انتماء».
وفي رواية (شرف) للروائية التركية (إليف شافاك)، تحكي قصة أسرة تركية تغربت وعاشت في بريطانيا، وما يتخلل هذا من إشكالات الهوية والانتماء في الغربة.
أمَا رواية (ثلاثية غرناطة)، فتعيد فيها الكاتبة رضوى عاشور استدعاء زلزال الهوية الذي كان قبل قرون حين أجبر المسلمون في الأندلس على تغيير ديانتهم وإخفاء هوياتهم العربية، حتى فقدوا حريتهم في تسمية أبنائهم الأسماء العربية: «ولما كان على حسن أن يسجل البنت في الأوراق باسم أعجمي، فقد سماها إسبيرانزا يناديها عائشة مرة وأمل ألف مرة». وهي بهذا الاستدعاء، تجعل المتلقي يستدعي هو بدوره صراعات الهوية في عصرنا الحاضر، هذا الصراع الممتد المتجذر عبر القرون، هو وجع الإنسانية القاتل.
وثمة روايات أخرى تحمل هذا الهم: إشكالات الهوية والانتماء ومساءلتها، ما يجعل من هذا الموضوع موضوعاً جديراً بالتأمل والقراءة الفاعلة من النقاد والباحثين.
د. دوش الدوسري - أستاذ الأدب والنقد المشارك - جامعة الأميرة نورة