د. صالح بن سعد اللحيدان
قلت من قبل في هذه المجلة الثقافية المرموقة في هذا المعجم إن الحيثية والسبب والعلة والتعليل شيء واحد، لكن قد يختلف الوضع باقتران سبب مادي يصرف هذه الألفاظ إلى معنى آخر، وكان قصدي وقصد العلماء العارفين بسياسة الدول وسياسة الموهبة الإدارية العليا هو أن لا نقرن بين العرض والمرض، فإن من سلف ذكرهم في الجزء الأول من هذا المعجم من الباحثين والمحققين والمؤرخين قد كانوا خلط كثير منهم بين العرض والمرض، فأبين هنا أن هناك أموراً توجب طغيان العرض على المرض في الحيثيات والعلل والأسباب، فمن ذلك في تقديري الذي راجعته كثيراً كثيراً قبل تدوين هذا المعجم أن من أسباب طغيان العرض على المرض والاهتمام بالعرض دون المرض ما يلي:
أولاً: الارتياح للحل الذي كانت نتيجته جيدة في بدء الأمر.
ثانياًَ: سطو العاطفة على تحكيم العقل ورؤيته للآثار.
ثالثاً: سطو القلب وإحاطته بالعقل لكي لا يرى المرض وإنما يرى العرض.
رابعاً: حيل النفس على نظرة العقل للحوادث والوقائع من خلال الحيثيات لا من خلال نظر أصول الحيثيات ووقوعها على أرض الواقع.
خامساً: الحل الجزئي للأسباب والرضا بهذا دون معالجة المرض أصلاً والذي قد يتورم بتركه لينمو كنمو عروق الأشجار في ظلمة الأرض وسط ظلام دامس.
سادساً: العجلة في قبول الحلول المؤقتة التي يقبلها القلب وتدعو إليها العاطفة ويرفضها العقل المكين.
سابعاً: الاطمئنان إلى ذوي المصالح الشخصية. وهذه نقطة قد تغيب عن البال لطغيان العاطفة على العقل على وجه دائم.
ولا شك إنني سوف أكرر، قلت سوف أنقل ما كنت قد ذكرته قبلاً في معالجة سياسة الدول، وهذا أمر أراه ضرورياً لأنه ينصب على معالجة المرض لا العرض من وجه قريب، وأشك أن أحداً يخالفني من ذوي الاختصاص في سياسة الدول الذين يتكئون على قاعدة صلبة من علم ورأي سديدين. لقد قلت من قبل إنه إذا كان لدى أي دولة أو حاكم من الحكام مشكلة فإنه يحسن به كما يحسن بها أن تنظر هذه الخطوات:
أولاً: معرفة أصل المشكلة ومنبتها.
ثانياً: معرفة أسبابها كل على حدة بروية وثقل متين وطول بال.
ثالثاً: تحديد السبب الأقوى فالأقوى.
رابعاً: معرفة تسلسل الأسباب وجهاتها وعدم الثقة بذوي المصالح.
خامساً: معالجة السبب الأقوى بروية وطول نفس.
سادساً: القطع في حل المشكلة دون تردد مع أخذ الاحتياط بل الاحتياطات لعدم الوقوع في الخطأ أو تكراره.
سابعاً: إيجاد الحلول بجعل الباب مفتوحاً لكل نظر ورأي حتى وإن جاء من أقل الناس علماً.
ثامناً: الاستفادة مما حصل من الدول المتقدمة عبر العصور.
وأريد هنا دفع الشك باليقين أن المرض هو الذي يجب نظره ومعالجته بعملية جراحية بتخدير يقبله البدن وتقبله الكريات البيضاء وتغذيه الكريات الحمراء، وهذا دون شك يعطي الدولة أي دولة الارتياح لحقيقة دوامها بقاطع دابر المرض الذي تشعب عنه أعراض كثيرة وإنما الذي وقع فيه المستعصم آخر حكام الخلافة العباسية أن الذي وقع فيه هذا الرجل - رحمه الله - ليس الضعف بذاته كما أشار بعض المؤرخين، لكنه تساهل في المقربين إليه من الترك والشركس وغيرهم فعالج هناك الأعراض وترك المرض يسري حتى هزم الكريات البيضاء فانهار البدن جميعه، وفي قصة هذا الحاكم وغيره مما خلف من القرون عبرة لشدة التروي وطول النفس والإحاطة بذات الأمراض التي تصب بمرض واحد في حقله في حوضه في بئره في ساقه. هذا هو الذي أريد من هذا الأمر على حال توجب مني ومن غيري دراسة أحوال الأمم والدول والحضارات، معرفة حقيقة كل مرض نخر في كل دولة في سالف العهود، والذي يقرأ ابن خلدون أو يقرأ قصة الحضارة أو يقرأ ابن كثير في جزئه الخامس والسادس والسابع يدرك حقيقة الدوام لكل من أرادهم - بإذن الله - ولعل من ناصح للقول أنني حينما أقرب إلى من لا أريده أصلاً وهو ناصح خير من أن أقرب إلى المستفيد مني مصلحة وإن كان من المقربين إليَّ، وكما قلت من قبل فإن الحيثية أن نصرف النظر عنها وكذلك العلل والأسباب لكن ننظر إلى بواعثها ليس إلا.