د. إبراهيم بن محمد الشتوي
اختار مؤلف الكتاب أن يكتب كتابه بضمير «الأنا»، وهي عادة ليست لازمة في كتب السير الذاتية، فالسيرة الذاتية الأشهر في الأدب العربي الحديث، وأعني أيام طه حسين، لم تكتب بضمير الأنا، وإنما كتبت بضمير الغائب، وقد جاء على شاكلتها كثير من كتب السير الذاتية.
وليس هناك علاقة بين نوع الجنس الأدبي واختيار الضمير، خاصة أننا نرى أن هذا الضمير يعد أثيرًا في الرواية الحديثة، بل يكاد يكون أكثر الضمائر انتشارًا حتى غلب على ضمير الماضي الأصلي في القص، وهو يرتبط بما يسمى بـ «التبئير الداخلي»، حيث تتمحور الرؤية على الشخصية، إذ إن المتلقي لا يرى إلا ما تراه الشخصية، وتقدم من خلالها. ولأن السيرة الذاتية تقص حياة شخصية واحدة، وتقدم الأحداث كلها من زاوية رؤيتها، هي كاتب السيرة، فإن هذا النوع من التبئير يقترب من التبئير الصفري أو الراوي العليم الذي يصبح فيه الراوي عالماً بكل شيء. ولأن هذا النوع من التبئير لا صلة له بالضمير، فليس مرتبطًا بضمير المتكلم، أو الغائب، فإن اختيار الكاتب لضمير «الأنا» أعطى الشخصية/ الكاتب/ غازي القصيبي حضوراً في النص، وقوة في إدارة الحدث باتحاد ثلاثة مكونات نصية، كان من الممكن أن تنفصل. هذه المكونات هي: الراوي، والشخصية، والضمير.
هذا الحضور لا يظهر فقط في اختيار الأحداث، والزاوية التي تقدم من خلالها، وإنما أيضاً يظهر في موقعه في هذه الأحداث، فهو الشخصية الذي يمكن أن يوصف بأنه «البطل»، بناء على أنه بؤرة الحدث، ومرتكزه. وقد يقال: إن هذا أمر طبيعي، فهذه سيرة ذاتية، ولذا لا بد أن تكون الشخصية هي الفاعل، وهي المسيطرة على الحدث، ولكننا نقول بأن هذا غير صحيح، وليس لزاماً أن يكون الحال كذلك، فالسيرة الذاتية قد تكون تقص حادثة اضطهاد، وظلم تعرضت له الشخصية، يكون فيها واقعاً تحت طائلة فعل شخصية أخرى، وهذا لا يخرجها من «السيرة الذاتية»، كما أنه لا يغير في مفاهيم السرد آنفة الذكر.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن هذه الأحداث التي يرويها الكاتب ليست من الأحداث العادية التي تحدث للإنسان كل يوم، وإنما هي أحداث أبطالها الملوك، وأعضاء مجلس الوزراء، أدركنا قوة هذه الشخصية التي تسرد الأخبار، ونوع الأحداث التي تقص فيها.
وقد جاءت الشخصية هي التي تقود الأحداث، وتتولى زمام الأمور، ولعل الحادثتين اللتين كانت الشخصية فيهما مسيرة لا رأي له كبير، هما حادثة «تعيينه» -على الحقيقة - في لجنة توقيع الاتفاق في الحرب اليمنية، إذ لم يؤخذ رأيه فيها، ولم يقبل طلبه الاعتذار حين حدث الدكتور عبد العزيز الخويطر بذلك، والثانية حادثة إعفائه من وزارة الصحة، حين صدر الأمر بذلك، فهو لم يعلم عن الأمر إلا بعد صدور القرار، ولم يؤخذ رأيه بذلك. ولعله من اللافت للانتباه أن نجد أن الكاتب يقص أطرافاً من هذه الحادثة بضمير الغائب، وربما تكون الحادثة الوحيدة التي حل فيها ضمير الغائب محل ضمير المتكلم، بإحصاء دقيق، وتتبع لتقلبات الضمير في القص، وعدد هذه التقلبات.
الأمر الذي يعني فرادة هذه الحادثة بالنسبة لشعورها تجاهها، فهو غير قادر على تصور ما حدث بوصفه قد حدث له شخصياً، وأن ما قامت به الشخصية هو قام به كذلك، وكأنه يتسول بضمير الغائب ليخفف على وعيه حقيقة ما حدث، وعلى ذاكرته قسوة تلك الذكريات، فيجعل بينه وبينها ضمير الغائب.
وإذا كان في الحادثة الأولى قد سعى للاعتذار والخروج من اللجنة، ولم يوفق، فإنه في الحادثة الثانية قد ألمح إلى أنه قد لوح بالاستقالة من الوزارة إن لم يجب إلى طلبه، وأن الملك قد نصحه «مراراً» بالصبر، وإذا كانت فلسفة القصيبي الإدارية تتركز على أن التلويح بالاستقالة غير مقبول، وأن المدير ينبغي ألا يخضع للابتزاز، فإن هذا يعني أنه قد صنع حادثة الخروج من الوزارة بشكل غير مباشر. الأمر الذي يعني أنه حتى في هذه الحادثة كان حاضراً قوياً ذا تأثير في صناعة الحدث، واتخاذ القرار فيه.
وهنا يأتي السؤال عن هذه القوة التي تقدمها السيرة الذاتية (حياة في الإدارة)، هل كانت الشخصية في الواقع بهذه القوة، والحضور كما تقدمها السيرة؟ حين نعود إلى المرحلة التاريخية، نجد أن شخصية «القصيبي» أخذت بعداً أسطورياً - كما ذكر الكاتب - فعلى يديه دخلت الكهرباء البيوت دون تفريق، وأصبحت تأتي 24 ساعة بعد أن كانت تبدأ بالليل فقط، وتوقفت عن التقطع المتكرر، وعلى يديه - أيضاً -، أو إبان توليه حقيبة الوزارة، تغير وجه خدمات القطاع الصحي، وفتحت المستشفيات في أماكن كثيرة، واختلفت نوعية الطواقم الصحية في المستشفيات.
والسؤال هنا مرة أخرى على المستوى الواقعي/ التاريخي، وعلى المستوى النصي: هل يمكن أن تكون هناك شخصية بهذه القوة، بحيث تكون قادرة على هذه النقلة النوعية، وتملك العصا السحرية لتحويل اليباس إلى خضرة، والجفاف إلى أنهار ومزون؟ أترك الجواب عن هذه الأسئلة، بناء على انتهاء المساحة المخصصة دون عزيمة على العودة إليها مرة أخرى.