د. محمد بن عبد الله المشوح
الولع بالكتاب وعشقه والشغف به حديث تطرب له الأنفس والقلوب المعلقة به وهو كذلك حديث قديم جديد وأخبار الكتبية وعاشقي الكتاب دونت فيه أخبار وسطرت فيه حكايا تطول.
وكنت ولما أزل أتتبع كل حين زيارة بعض أولئك الأعلام الكرام الذين شاركتهم هذا الولع ونافستهم في هذا الحب العفيف.
وفِي يوم الثلاثاء الثاني من ذي القعدة من هذا العام ألف وأربع مئة وثمانية وثلاثين تحققت لي أمنية قديمة أن أظفربزيارة مكتبة فضيلة الشيخ القاضي أبي يوسف محمد بن هديهد الرفاعي بمكة المكرمة .
وكنت قدقرأت وسمعت عن ضخامتها ونفائسها ونوادرها من الطبعات والدوريات والمجلات وعلمت أن للصديق الفقيه الأصولي الشيخ الدكتور فهد الجهني صلة قديمة بالشيخ ويجمعهم أمور عدة القربى والعلم وحب الكتاب فاتصلت بالدكتور فهد وأخبرته برغبتي في زيارة مكتبة الشيخ الرفاعي بصحبة الصديق الأستاذ الدكتور عبدالله عسيلان وهو الذي يبتهج فرحا بمثل هذه الزيارات والمفاجآت فأخبرني الدكتور فهد أن من الصدف الجميلة انه للتو هاتف الشيخ الرفاعي فعاتبه الشيخ عن طول الغيبة فاعتذر الدكتور ووعده بالزيارة من الغد وطلب مني مرافقته لتلك الزيارة فحمدت الله على هذا التوافق المبارك ثم هاتفت أستاذنا الدكتورعبدالله عسيلان وهو قد قدم إلى جدة منذ أيام بأن لدينا زيارة لأحد العلماء فوافق كعادته لطفا وخلقا وسماحة ونقاء منذ عرفته .
وفِي ضحى يوم الثلاثاء مررت على الدكتور عبدالله في شقته في شارع حراء ثم يممنا شطرنا نحو مكة وقرب منزل الشيخ محمد الرفاعي التقينا بالدكتور فهد يرافقه الدكتور عبدالوهاب الزيد وصحبناه للشيخ والمكتبة .
دلفنا إلى مكتبة الشيخ وبادرنا بالسلام وتقبيل رأس الشيخ الذي بدت عليه آثار السنين وتقدم العمر وقد جلس على مكتبه والحضور أمامه وبدأت أحاديث ولطائف عن الكتب والمكتبات ومن أظرفها إعارة الكتب حيث تمثل الدكتور عبدالله عسيلان قول الشاعر:
ألا يا مستعير الكتب دعني
فإن إعارتي للكتب عار
فمحبوبي من الدنيا كتاب
وهل رأيت محبوباً يُعار
وقد امتعنا جميعاً بقصصه مع الكتب وحكاياتها فسألناه عن أول كتاب اقتناه فأورد لنا قصة أول كتاب عرفه وهو في الثامنة من عمره وتحديداً في سنة 1358هـ، حيث يقول شاهدت أحد الإخوة الأفارقة يتأبط كتاباً وسألته عنه فقال هذا كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وأنا آنذاك لا أقرأ ولا أكتب فجعلت أردد العنوان لعلي أحفظه.
ثم قدمت بعد يومين إلى الدكاكين المحيطة بالمسعى والتي تبيع الكتب فسألتهم وقلت أين كتاب التوحيد وحق العبيد على الله.
فضحك صاحب المحل من مقالتي تلك وأعطاني الكتاب .
ثم تتابع الحديث عن أعماله وقال إنه عمل فور تخرجه من الكلية في المدينة بما يقارب ثمانية أشهر ثم جدة ثم انتقل إلى مكة فأقام بها معلماً ثم قاضياً حتى تقاعد حفظه الله
ثم عقب الشيخ محمد الرفاعي بقصة وقعت له مع الشيخ بكر أبوزيد - رحمه الله -، حيث تجمعهما صحبة قديمة ومفادها أن الشيخ القاضي محمد الرفاعي اتصل يوماً بالشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - (وكان بينهما معرفة وخصوصية) يسأله عن كتاب (الأشربة) وأنه أعياه البحث عنه فلم يجد له أثرًا، وسُدّت في وجهه سُبُل العثور عليه!
ولم يبعد حدس الشيخ بكر، فقد كان الكتاب من مقتنيات صاحبه، فقال الرفاعي على الفور: الكتاب عندي! فبادر بكرٌ إلى طلبه منه (وهو يعلم أن الرفاعي لا يعير الكتب ويعلم أيضًا كراهته للإعارة) لكنه تجرّأ متوسّلاً بما بينهما من معرفة قديمة ورَحِمٍ للعلم موصولة! تلكّأ الرفاعيُّ قليلا لكنه ما لبث أن وافق تحت ضغط قِدَم الصحبة ورَحِم العلم، لكنه اشترط عليه أن يعيده صباح اليوم التالي، وهل أمام بكرٍ إلا أن يبادر بالتزام الشرط دون تردّد؟! مضى بكر بالكتاب إلى بيته يسابق الوقت الذي سينفد سريعًا، وأمضى ليلتَه عاكفًا على هذا الكنز الذي سيغادره آخر الليلة (وما أسرعها من ليلة!)
لكن القاضي الرفاعي ما فَتِئ منذ خرج الكتاب من مكتبته وغادر أترابه من عزيز الأسفار ونادر الدفاتر يضربُ أخماسًا في أسداس خوفًا على كتابه الفريد ألا يعود إلى عشّه الآمن، وبات ليلةَ خوفٍ وترقّبٍ متى يسفِرُ صباحُها(وما أبطأه من ليل!)
وفي هذه الأجواء المشحونة بالقلق برقَ بارقُ أملٍ.. تذكّر الرفاعي أنه يملك نسخة أخرى من الكتاب مصورةً لا أصلاً (كتلك التي ذهب بها بكر)، فنهض من فراشه ونزل إلى المكتبة في هجعة الليل، باحثًا عن هذه النسخة، يجوب المكتبة (الضخمة) طولا وعرضًا بحثًا عنها، تصرّمت الساعات دون جدوى، وأين سيعثر على مجلد صغير بين آلاف مؤلفة من الكتب؟!
شارف الشعور باليأس من العثور عليها أن يستولي على تفكيره، وشارف الفجرُ أيضًا على البزوغ وعنده أمل أن يعود إليه كتابُه، وبين الشعورين إذا بالنسخة تظهر في رفّ قصيّ هناك، وكأنها تقول له: ولابدّ دون الشهد مِن إبر النحل!
تفتّق وجه الصبح وقد وجد القاضي نسخته الثانية، وقد صبّحه الشيخ بكر بالنسخة الأولى (وفاء بما وعد)، تلاقيا وقد أخذ الجهدُ منهما كل مأْخَذ، ودفع الشيخ بكر إلى صاحبه كتابَه، وقد ظهرت على وجهه آثار الإجهاد وفي عينيه احمرار شديد، فسأله الرفاعي مستفسرًا؟
فقال بكر: أمضيتُ ليلتي أقرأ وأنسخ ما أحتاج لم تكتحل عيني بنوم!
وأنتَ.. مالك يبدو عليك الإجهاد وعيناك لا تختلفان عما سألتني عنه؟!
فقال: أمضيتُ ليلتي أنا الآخر أبحث في المكتبة عن نسخة أخرى من الكتاب إشفاقًا ألا تعود نسختي!
فقضى كل واحدٍ منهما العجبَ من صاحبه، ولا عجب فحال العاشقين واحد.
تلاوما صنيعهما للحظاتٍ ثم بادر الرفاعي فقال: خذ هذه النسخة الثانية هدية.. وبدت عليهما علامات الرضا بما صنعا.. وأمسك الرفاعي بيد الشيخ بكر إلى المنزل.. وقد ذهب ما بهما من التعب ونال كلٌّ مطمَح نفسِه ولذّةَ روحِه!
وقد أورد هذه القصة الشيخ علي العمران في عدد من المواضع .
والشيخ محمد الرفاعي من أكرم الناس بالكتب شريطة أن لا تخرج من مكتبته لذا فداره ومكتبته مفتوحة للباحثين والمهتمين طوال اليوم ولا غرو أن تكون مكتبته الضخمة المميزة مطلباً لكل زائر لمكة من العلماء وطلبة العلم والمهتمين وهي كما تجولت واطلعت تحوي نفائس ودرراً من طبعات أمهات الكتب في التفسير وعلوم القرآن والسنة والعقيدة والفقه وأصوله واللغة والأدب والشعرا والفلسفة والتاريخ والتراجم وغير ذلك من فنون المعرفة والعلوم والثقافة والشيخ محمد الرفاعي خبير دقيق بكل خبايا مكتبته يعرف كل كتاب أين موقعه ومكانه وهي عنده كالحديقة الغناء الوارفة الجميلة يجوبها كل يوم ويتفقدها وكأنه يقدم التحية لكل مؤلف وكتاب يقبع ويقيم في مكتبته العامرة التي تأخذ حيزاً كبيراً من بيته، حيث خصص لها دور كامل .
أما المكتبة ففيها من نفائس الكتب وطبعاتها الشيء الكثير.
ومن لطائف اهتمامه أنه لا يكتفي من الكتاب بنسخة واحدة، بل يشتري أكثر من ذلك مخافة الضياع أو الفقد للنسخة.
والغالب في مكتبة الشيخ أنك تجد لكل كتاب أكثر من طبعة وتحقيق، لذا فإن مكتبته مرجع مهم لكل باحث أو مهتم .
حدثنا كذلك عن علاقته بكبار علماء مكة الذين تتلمذ عليهم وزاملهم وجمعته الصحبة بهم أمثال الشيخ سليمان بن عبيد والشيخ صالح التويجري والشيخ محمد الشعراوي والشيخ عبدالله البسام والشيخ بكر أبوزيد - رحمهم الله - وغيرهم من العلماء الأموات والأحياء والمعاصرين .
الشيخ محمد الرفاعي يحمل بين ذراعيه صفحات طويلة من العلم والمعرفة ومواقف القضاء وحكايا الكتب وقصص شرائها وولعه بها وتتبعه وملاحقته للنفائس من الطبعات إضافة إلى عدم مبالاته في شراء مكتبات عديدة وهو ما طالبت والدكتور عبدالله عسيلان بضرورة تدوين تلك القصة الطويلة من الحب والعشق وعمره اليوم يطرق التسعين متعه الله بالصحة والعافية راجياً أن يتحقق ذلك عاجلاً من قبل أبنائه البررة وتلاميذه وعلى رأسهم د. فهد الجهني .
حفظ الله الشيخ محمد الرفاعي وبارك في علمه وعمله وجزى الله الصديق د. فهد الجهني خيراً أن كان سبباً في هذه السياحة الكتبية الماتعة .