تقديم المترجم: نختتم اليوم ترجمتنا لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
وكسياسي، كان فودة يعلم عدم جدوى إحالة الدين إلى مستوى التقدير الفردي، بالرغم من أن هذا كان ميله كما اتضح من طلبه إحالة الدين إلى بقعته الشرعية أي «المسجد» أو تأكيده أن الإيمان مسألة بين الخالق وبين الإنسان فقط. (97) وإلى حد ما، أدى تجنبه النقاش حول النبي، ودعوته إلى الحفاظ على الدين في المجال العام، إلى إضعاف مناصرته لقضية الفصل بين الدين وبين السياسة في الإسلام على أساس التاريخ الإسلامي المبكر. وفي الوقت نفسه، لم ينتقص ذلك من موقفه السلبي عن الشريعة؛ وهو ما جعله أشد جرأة في نقد الإسلام السياسي في عصره. ومن ثم، جرى اغتياله على أيدي متطرفين إسلامويين عند مدخل مكتبه في القاهرة في عام 1992.
كشفت جريمة قتل فودة عن
ضعف الخطاب العقلاني في مصر
وكشفت جريمة قتل فودة الضعف التاريخي للخطاب العقلاني في مصر الذي يهدف إلى تحقيق توافق في الآراء لتشكيل نظام سياسي عملي والقيام بعمل جماعي فعال لتحسين وضع السكان. الجريمة والهيجان الذي سبقها، عكس تعصب وعدم تسامح الإسلاموية مع الأفكار المتمردة المخالفة للسائد والتي كانت تعدها بمثابة إلحاد. وحاول بعض الإسلامويين أحياناً من الذين يوصفون بـ«المعتدلين»، مثل محمد الغزالي ويوسف القرضاوي ومحمد عمارة وفهمي هويدي، في كتاباتهم سد الفجوة بين العقيدة الدينية القائمة على أساس الوحي وبين التطبيق العملي السياسي الليبرالي القائم على فكر الإنسان؛ ولكن جهودهم بقيت داخل دائرة «حرية تفسير النص المقدس» فقط، حيث يُبرر التغيير فقط عندما لا يهدد المعتقدات الدينية أو الممارسة الأخلاقية. لقد كان هؤلاء في الواقع هم الإسلامويين الذين قادوا حملة التحريض على فودة، حيث نزعوا شرعيته وشاركوا في اتهامه بالردة. (98) وبالمثل، كان موقفهم تجاه كتّاب آخرين من أصحاب مع الآراء المتمردة في مسائل علاقة الدين بالدولة، مثل محمد سعيد العشماوي وحسين أحمد أمين وفؤاد زكريا، حيث اتهموهم بالردة والتجديف في الدين. (99) وعكس ذلك عدم رغبتهم في الاعتراف بأي تيار علماني في الإسلام وقبولهم تطبيق التكفير والقسر الفكري على كل من ينحرف عن المعايير الدينية بحسب تفسيرهم لها؛ ولكن كاتبا إسلاميا بارزا آخر وهو محمد سليم حماد العوا ناصر وشرعن التعددية في الإسلام، واعترف بحق المسلمين في تشكيل أحزاب وجمعيات سياسية ولكن بدون مخالفة ما سماه أحكام الدستور الإسلامي. وكان هذا يعني، من الناحية العملية، عدم جواز تأسيس أحزاب علمانية، وعدم إنكار قابلية الشريعة للتطبيق في العصر الحديث، وعدم تجاهل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع. (100) وهذا يدعونا إلى استحضار تشكيك البروفيسور أحمد موصللي في حقيقة «اعتدال» و«انفتاح» هؤلاء الإسلامويين الملقبين بـ«المعتدلين» بخصوص أمور كالحوار والتسوية، والأهم من ذلك هو الاعتراف بالحقوق العالمية والحرية والتعددية والمجتمع المدني، على الأقل في السياق المصري. (101)
وفي أعقاب اغتيال فودة، عبّر كثير من الكتاب عن استيائهم العميق إزاء تعصب الإسلاموية التي صَنَعَتْ في مصر، مع مطلع القرن الحادي والعشرين، جيلا شاباً يحمل تفكيراً إسلاموياً متعصباً وخارج الزمان والمكان وغير مناسب للتعامل مع متطلبات العصر الحديث. ونسب نقاد هذا التطور إلى تحول مصر بشكل غير ملائم وغير مكتمل من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، وكذلك لمحو الذاكرة الجماعية للشعب أولاً من قبل عبد الناصر، الذي ألغى الحياة البرلمانية واعتنق العروبة؛ وثانياً، من قبل السادات، الذي أطلق عنان الإسلاموية ضد خصومه اليساريين والناصريين. وقد قضت هاتان العمليتان تماماً على إمكانية إقامة مجتمع مدني في مصر، (102) سمته التعددية المؤسسية والفكرية؛ وهو ما سيمنع الدولة من ممارسة احتكار السلطة والحقيقة. (103) وعلى أية حال، يبدو أن الاهتمام الفكري في فكرة المجتمع المدني في مصر المعاصرة كان «اهتماماً نظرياً أكثر منه عملياً».
ومن المفارقة أن تجربة نظام التعددية الحزبية التي بدأها السادات في السبعينيات وعززه مبارك في الثمانينيات أدى إلى استقرار واستمرار نظام الحكم الاستبدادي المركزي بدلا من تغييره. وكانت القوى الداعية إلى التحول الديمقراطي في المجتمع لا تزال ضعيفة ومقيدة بتدابير حكومية وقوانين الطوارئ. وانعكس عزم الحكومة على قمع المعارضة السياسية بوضوح في السياسة البرلمانية والمحلية على حد سواء، عبر انتصارات ساحقة للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم بلغت 94% من المقاعد في انتخابات البرلمان في نوفمبر 1995، و94% أيضاً في انتخابات المجالس المحلية في أبريل 1997. (104) وبالمثل، لم تؤد الخصخصة والإصلاحات الهيكلية التي جرت منذ عام 1992 إلى انخفاض كبير في السيطرة الحكومية على الاقتصاد، ولم تخفض نشاط القطاع العام. الهيمنة الحكومية حافظت على قوة الدولة؛ ولكنها منعت نمو الأعمال التجارية والمشاريع الحرة بشكل كبير؛ وهو ما أدى إلى إدامة مسؤولية الدولة الحصرية تقريبا عن البؤس الاقتصادي. (105) كما استمر النموذج الثقافي للمجتمع المصري في رعاية الارتباط الحميم بين الدين وبين الدولة، بالرغم من الابتعاد الفعلي القديم للعلماء عن المشاركة الحكومية. (106) ويجعل مظهر الوحدة العضوية بين الدين وبين السياسة في الإسلام، من الصعب على مصر، كبقية البلدان الإسلامية، تنفيذ تحديث حكومي بدرجة كبيرة من العلمنة.
النتيجة
وعموما، أثبتت كتابات عبد الرازق وخالد وفودة ليس فقط حيويتها التاريخية؛ ولكن أيضا هشاشة الخطاب الليبرالي-العلماني المصري حول الدين. ووجد المفكرون المسلمون المناصرون لفصل الدين عن الدولة، أو على الأقل فصل الدين عن السياسة، في الصراع مع الإسلامويين حول التوجه الثقافي لمصر، أنفسهم يقاتلون لإثبات شرعيتهم كما وجدوا تجاهلاً من قبل النخبة السياسية الحاكمة. ووجد نظام مبارك، مثل أسلافه وصولاً إلى عشرينيات القرن العشرين، نفسه محشوراً في هذه القضية المعقدة عن وضع الإسلام في الدولة. ومما ينذر بالشؤم أن التوجه المركزي لنظام مبارك وتصميمه على جعل الدولة أقوى من المجتمع أدى إلى غياب الدعم الشعبي الواسع لتحييد التحدي الإسلاموي.
انتهت الدراسة
(نعتذر عن عدم نشر هوامش المؤلف لضيق المساحة)
- ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى
hamad.aleisa@gmail.com