كتبت موضوعاً عن الفلسفة الفردانية التي استندت لها السياسة الاجتماعية للولايات المتحدة منذ نشوئها وتبعتها مثيلاتها الأوروبيات بعد ذلك، والتي تعتمد مبدأ: (إذا نجحت في تحقيق أهدافك فأنت وينر-رابح، وإذا لم تستطع فأنت لوزر-فاشل) وبالتالي يجوز لك -حسب هذا المبدأ- أن تستخدم كل أنواع النذالة والغدر والسرقة والقتل وغيرها من السلوكيات اللاغية لفكرة المجتمع والحق العام من أجل أن تكون (وينر). وقد كانت هناك ردود أفعال مختلفة ليست كلها إيجابية ولا كلها سلبية، وهذا ما يفرحني ويشعرني أنني خارج نطاق التصحّر ولا أفكر وحدي! وقد كان أصدق تلك التعليقات هو تعليق شقيقي الفنان الحبيب علي العلي، الذي يعيش هو وعائلته الكريمة في كندا منذ أمد -بالنسبة لي- بعيد، أقتبس منه ما يلي: (*ما هي حدود العلاقات في المجتمع الغربي!؟ ويمكن أن نقلب السؤال إلى: هل معك كلب!؟ هذا ما أشاهده كل يوم ... عشرات من قطعان المجتمع الغربي «المتحضر» حياتياً و»متخلف» ثقافياً إلى أبعد الحدود .. يحمل كيسا بلاستيكا وينتظر كلبه يقضي حاجته في الحديقة العامة أو الشارع ويضعها في الكيس ويرميها في أقرب زبالة عامة ويعود مع كلبه الحبيب إلى البيت، فالكلب يغنيه عن لقاء أصدقاء أو نادٍ اجتماعي أو طفل يربيه ..الخ.)
وبالرغم من أنها ليست الزاوية الوحيدة التي لم أتطرق لها في مقالي عن الفردانية، فالمقال الصحفي لا يتسع لموضوع فكري عميق كالفردانية من جميع جوانبه، ولكن العزف الفكري المنفرد الجياش الذي أسمعني إياه أخي علي أبو بشار كتابةً وهو في الغربة! جعلني أشعر بمقدار أهمية تناول الموضوع من الزاوية التي ذكرها أو أي زاوية أخرى مماثلة! والصحافة لم تخلق يوماً من أجل الدعايات التجارية (الخلاقة!) أو للثقافة المعلبة، إنما ابْتُكِرَتْ منذ أول صحيفة من أجل إيصال الحقيقة وتداول المعرفة. لا بد إذن من تسليط الضوء على مآل التجمعات -ولا أقول المجتمعات- التي تعتمد الفردانية منهجاً لها! ... فالفرق بين تجمعات الحشرات وأسراب الطيور والأسماك وقطعان المواشي من جهة، وبين المجتمع الإنساني من جهة أخرى هو التواصل! ... كيف ذلك؟ وما هو منشأه؟ ولماذا تميز الإنسان عن الكائنات الأخرى؟
التواصل بين أفراد المجتمع الإنساني يتم بواسطة اللغة بكل أشكالها، أي لغة الكلام ولغة الجسد ولغة الفن -الموسيقى والأدب والرسم والنحت والأعمال السينمائية والتلفزيونية، وكذلك لغة العلوم والحاسوب والأجهزة الذكية ..الخ. ولكن هذا التواصل لم يتكون دفعة واحدة ولم يأت من فراغ، إنما بسبب الحاجة للتواصل التي يتطلبها العمل الجمعي، وهو موجود عند الحيوان والإنسان، والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا أنتج هذا العمل الجمعي عند الإنسان وعياً ولم ينتج عند الكائنات الأخرى شيئاً مشابهاً؟ ... الجواب العلمي الذي يتهرب منه ما يسمونهم علماء اجتماع هو أن هذا العمل الجمعي هو ضمن مجتمع وليس تجمعا! .. تجمعات أسراب الطيور والأسماك وقطعان المواشي لها مهمات مؤقتة تنتهي كتجمع حال بلوغ الهدف، ثم تتفكك ويصبح كل زوجين عائلة مستقلة عن الأزواج الأخرى، وإذا تقابل ذكران لا بد أن يقتل أحدهما الآخر. أما المجتمع البشري مبني على الاستمرارية كتجمع، ولذلك لا يقبل الفردانية كمنهج! فأنت لا تستطيع أن تكون طبيباً ومهندساً وفلاحاً وموظفاً وفناناً ..الخ في آن واحد، وحتى قبل الحضارة عندما كان الإنسان البدائي لا يصنع غذائه بنفسه، إنما يعتمد على ما تجود به الطبيعة من صيد وثمار، كانت اللحمة بين أفراد المجتمع تمنحه القدرة على الاكتشاف والتجربة والتأمل وصولاً إلى تنامي الوعي.
إذن العمل الجمعي لدى الحيوان يصبح عملاً اجتماعياً عند الإنسان، أي أن العمل التكاملي مع أفراد المجتمع الآخرين هو أساس إنسانية الكائن المسمى إنساناً، فهل يستطيع النظام الرأسمالي الذي حول بالفردانية عناصر المجتمع إلى أرقام أو أدوات لتحقيق الأرباح أن يستمر في تدمير الأساس الذي نشأ عليه المجتمع البشري؟ ولماذا يقول المفكر والفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي في حديثه عن الشعب الأمريكي: (القطيع بدأ يستيقظ!) مباشرة بعد أحداث وول ستريت 2010؟ ولماذا يتخبط الآن البيت الأبيض في معالجته للأزمات الداخلية والخارجية؟ ولماذا لم يستطع تسويق الرئيس الذي يسمى منتخباً حتى الآن؟ .. أعتقد أن الأنظمة الرأسمالية ستحتاج قريباً إلى سلفية جهادية لقمع الشعب الذي أفاق واكتشف الخديعة المسماة ديمقراطية! ولن تنجح تلك الأنظمة بالرغم من ذلك في تحويل المجتمع البشري إلى قطيع!
- عادل العلي