كانت المؤسسة الأكاديمية من خلال أقسامها العلمية رافداً ومصدراً شبه وحيد للبحوث والمشاريع النقدية التي تغذي المشهد الثقافي، خاصة في السبعينيات والثمانينيات الميلادية، وعلى قلة النتاج البحثي في تلك الفترة، مقارنة بما يُكتب اليوم، إلا أن ما أنجز فيها بأقلام الرواد الأوائل من الدارسين والنقاد يُعد علامة فارقة في تاريخ النقد والأدب، إضافة إلى المقالات المنشورة في بعض الدوريات المتخصصة التي كان يكتبها ويتناقلها الأكاديميون –أيضاً- في مجتمعاتهم النخبوية، ويكاد يكون من النادر أن تجد ناقداً أو أديباً لا ينتمي إلى مؤسسة أكاديمية في تلك المرحلة، على خلاف ما هو حاصل حالياً، والسؤال المطروح هنا هو: ما الذي اختلف؟!
الحق أن تلك المؤسسات مازالت تؤدي جزءاً من ذلك الدور، لكنها تراجعت كثيراً في نوعية المنجز النقدي، بفعل عوامل مؤثرة من داخلها ومن خارجها أيضاً، أما التي من داخلها –وهي التي تعنينا في المقام الأول- فترجع إلى أسباب منها عدم القدرة على الانفكاك من مرحلة التنظير التي تبناها جيل الرواد الأكاديميين، والعجز عن البدء في مرحلة جديدة من الإجراءات التطبيقية النقدية تلائم طبيعة المدونة العربية واشتراطاتها التاريخية والاجتماعية، وهو ما يجعل الكثير من راصدي المشهد النقدي يعجزون عن إثبات نقلة نوعية جديدة واضحة وصريحة في بحوث ودراسات جيلنا الحالي.
لقد قام جيل الرواد الأكاديميين –خاصة المغاربة- بالمهمة في تزويد المكتبة العربية والمؤسسة الأكاديمية بالمناهج النقدية الحديثة التي نشأت في الغرب، وعرّفوا الأجيال العربية اللاحقة بها، وكان يفترض أن تستمر مسيرة النقل والتطوير معاً، غير أن الواقع شهد فتوراً امتد لعقود في البيئات الأكاديمية، وتضخماً في منجزها النقدي، يشبه إلى حد بعيد ما يحصل في الأسواق المالية الاقتصادية (كما لو كان لدينا سوق استثماري نقدي ضخم ولكن لا يوجد لدينا استثمار نقدي حقيقي) عدا تلك المشاريع التي تظهر على استحياء بين الفينة والأخرى، التي لا يجد أصحابها من الاهتمام والتقدير والإشادة ما يستحقون، لا من مؤسساتهم الأكاديمية، ولا من المؤسسات والمنتديات الثقافية بشكل عام.
إن سلوك المؤسسة الأكاديمية اليوم في تعاطيها مع البحوث النقدية والأدبية المقدمة للأقسام العلمية من طلاب وأساتذة الدراسات العليا، لا ينتظر منه –للأسف- أن ينقلنا لمرحلة نقدية متقدمة بالحالة التي هو عليها اليوم، ولا يتوازى –أساساً- مع الضرورة الملحة للتجديد ومتابعة كل جديد، لا من حيث الجانب الموضوعي (ما يتعلق بموضوعات البحث وأفكاره وأسئلته ومناهجه) ولا من حيث الجانب الإداري البيروقراطي (ما يتعلق بتلك العراقيل التي تُسنُّ أمام الدارسين والباحثين أثناء تسجيل البحوث ونشرها وتحكيمها)، وكلا الجانبين مهم ومكمل للآخر، فإذا وجد الباحث قصوراً في أحدهما فسيتحول همه من الإبداع والتجديد في دراسته النقدية إلى مجرد إنهائها بأي صورة وأي نتيجة، ولا شك أن هذا إهدار لجهدٍ ووقتٍ كان بالإمكان استثماره على أحسن وجه لو أن سلوك المؤسسة الأكاديمية كان أكثر صرامة في توجيه الباحث لانتهاج الإطار النظري والتطبيقي الملائم لسؤال البحث وفكرته، وأكثر ليونة في الإجراءات والمتطلبات الإدارية، ولعلي أعزو عدم احتفال الكثير من الأكاديميين النقاد وعدم احتفائهم ببحوثهم النقدية التي قدموها لأقسامهم العلمية، إلى أنهم كانوا يرونها ضرورة لتجاوز عراقيل المؤسسة الأكاديمية ليس أكثر، فكان همهم في ذلك الوقت إنجاز المتطلب الأكاديمي للوصول للرتبة العلمية أكثر من إثراء المكتبة العربية بمشاريع بحثية يمكن أن تصبح علامة فارقة في المنجز النقدي العربي كاملاً.
هذا إضافة إلى أن السياسة الفكرية لبعض المؤسسات الأكاديمية تحدُّ من مجال العمل البحثي والنقدي وتجعله في إطار الأفكار التي تتبناها وتؤمن بها فقط! بغض النظر عن صلاحيتها لهذا الزمن من عدمها، وهو ما يجعلها تخسر باحثين متميزين لديهم من الأدوات النقدية والاستعداد الفطري والثراء المعرفي ما يمكنهم من أن يكونوا في طليعة النقاد التطبيقيين.
إن تلك العقلية الفكرية التي تدار بها بعض المؤسسات الأكاديمية، وتلك المقاومة الشرسة التي تظهر أمام كل فكرة نقدية حديثة أو فلسفة نظرية جديدة من قبل دوائر عميقة وتكتلات فكرية جامدة، وتلك «الشللية الأكاديمية» التي أتت على الأخضر واليابس في كل مناسباتنا الثقافية؛ تحول دون تطوير منجزنا النقدي والأدبي وإشراك الجميع فيه، وتجعلنا ندور في حلقة مفرغة من التنظير الذي مازلنا فيه منذ السبعينيات والثمانينيات، ولم نستطع -بعدُ- الخروج من عباءته، حتى وإن تبنت مؤسساتنا الأكاديمية ما تسميه - مجازاً- كراسي البحث العلمي! أو الملتقيات النقدية الأدبية!
- د. حمد الهزاع
h.hza@hotmail.com